استفزتني في الايام الأخيرة ظاهرة المواطنين اللبنانيين الذين يعتلون المنابر والمنصات والشاشات للإدلاء بمواقف وتصريحات تتبلور فيها عملية الانبهار "بالرجل الأبيض" وجلد الذات والعقد الدونية. الدونية للإيضاح، مصطلح أتى به الطبيب والمعالج النفسي النمساوي ألفرد أدل، لوصف مشاعر الأشخاص الذين يجمعون كل نقاط ضعفهم ويجعلونها المقياس لذاتهم وقيمهم. ونتيجةً لعيوبهم الحقيقية أو المتخيلة، يستنتجون أنهم بلا قيمة أو أقل نجاحًا نسبة إلى الآخرين.
كما تناول فرانتز فانون هذه الظواهر الاجتماعية بإسهاب، وهو يعد بالنسبة للكثير من المثقفين رائداً فكرياً. في كتابه الشهير "بشرة سوداء أقنعة بيضاء"، تطرق فانون إلى العنصرية والعلاقة الملتبسة التي سادة عالمياً بين السود والبيض بعد زوال الاستعمار، وشبهها بمتلازمة ستوكهولمStockholm Syndrome ، وهي ظاهرة سيكولوجية تصيب الفرد عندما يتعاطف أو يتعاون مع جلاده أو من أساء إليه بشكل من الأشكال.
لن أعود كثيراً إلى الوراء وأوغل في تاريخ لبنان، لتفكيك هذه الظواهر، لكني سأتحدث فقط عن الفترة التي تلت تفكك الدولة العثمانية بعد معاهدة سيڤر في عام 1920، وإعلان الانتداب الفرنسي على لبنان، الذي أقرته عصبة الأمم في نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث احتلت فرنسا إدارة سوريا، وكان لبنان جزءاً منها. استمر الانتداب الفرنسي حتى عام 1943، وقد شهدت أواخر تلك الفترة تولي أيوب ثابت رئاسة الجمهورية من 19 مارس 1943 إلى 21 يوليو 1943، فيما تولى الأديب أمين الريحاني منصب نائب الرئيس. وبحسب أحد مؤسسي الرابطة القلمية في نيويورك، الناقد والاديب السوري عبد المسيح حداد، كان الريحاني يتنقل بين اميركا وباريس لتأييد الانتداب على سويا ولبنان، وكانت قد بدأت في الولايات المتحدة حركة لتأييد الحماية الفرنسية، من أبرز وجوهها جبران وأيوب ثابت، وميخائيل نعيمة، ونعوم مكرزل وغيرهم.
وفي كتابه "الاستشراق" الذي صدر في عام 1978 قدّم المفكر الراحل إدوارد سعيد من خلاله تحليلاً مستفيضاً للخطاب الاستعماري وتفكيكه وتشريحه وتقويضه، وقدّم رؤى نقدية ريادية، متأثرا في كل ذلك بمنهجية جاك ديريدا، وميشال فوكو، وأنطونيو غرامشي، والتي سنستعيرها منه لفهم السر الدفين للعقد الفكرية والنفسية العميقة التي تطبع التصرف والسلوك اللبناني تجاه الغرب.
عقدة النقص تجاه الغرب هي نتيجة حالة العجز التي يعيشها اللبنانيون إزاء الواقع ومشكلاته، وانعدام قدرتهم على المجابهة، لذلك فإن الامور تبدو لهم وكأن هناك باستمرار انعداماً في التكافؤ مما يشكل لديهم انعداماً للثقة بالنفس، ويُعمّق مشاعر الدونية والنقص باستمرار تجاه الواقع المُعاش. فاذا بالجماعات تفقد كل مشاعر الإيمان بقدرات العمل الجماعي على النهوض والتغيير، وتتجلى عقدة النقص هذه بوضوح ظاهر في موقف المجتمع اللبناني من العلم والتكنولوجيا والغرب.
فالكذب والتصنّع أصبح محوراً أساسياً للعلاقات، مهما تنوعت المستويات وتعددت المظاهر، والكذب يعمم على كل العلاقات: كذب في الحب والزواج، كذب في الصداقة، كذب في المعرفة، كذب في الإيمان، معظم العلاقات زائفة ومعظم الحوار الدائر عبارة عن تضليل وخداع.
إحدى الحالات الصارخة في المجتمع اللبناني للسلوك الكاذب نجدها عند الجيل الجديد، الذي عاش مراحل الوهن الاقتصادي والثقافي والسياسي، والآن يشهد تكاذب الطبقة السياسية ويعيد انتاجها. مظاهر حالة الضياع والازدواجية في السلوك والموقف باتت واضحة للعيان في العلاقات واللغة المستخدمة.
وعلى رغم وجود هذه الظواهر في محيطنا العربي والعالم ثالثي، إلا أن التعبير أو المصطلح الأجنبي أيسر على اللسان اللبناني وأقرب إلى الذهن، طبيعياً أو اصطناعاً، جهلاً أو تكلفاً. وتدفع عقدة النقص أمام الأجنبي إلى هذه الظاهرة لإخفائها أو لاستكمالها. كان ذلك مفهوماً أثناء الانتداب لمخاطبة الفرنسي ببعض ألفاظه ومصطلحاته.
وما يميز الحالة اللبنانية هو الازدواجية الثقافية من حيث المصادر وليس فقط من حيث اللغة، من حيث المضمون وليس فقط من حيث وسائل التعبير. وتلحق اللغة باغتراب الهوية. وتساعد على اغتراب الفكر بعد اغتراب الوجود. ويصبح الاغتراب هو النسيج الفعلي للوجود اللبناني، هوية ولغة وثقافة فيغترب العربي في التاريخ. ويخرج عن مساره.
عقدة النقص تجاه الغرب نتيجة حالة العجز التي تعيشها الذات اللبنانية إزاء الواقع، التي هي جزء من مشكلة عالم ثالثية، هي انعدام في القدرة على المجابهة. يشرح المفكر الراحل داريوش شايغان في كتابه "النفس المبتورة"، حيث يشير إلى هاجس الغرب في مجتمعاتنا يعود الى تأثير الغرب والحداثة. والغرب والحداثة يثيران ويحركان العالم العربي في مدارات مقاومات عديدة، فيولدان تارة تراجعاً إلى أسطورية الأصول، ظناً بأنها تحلّ بأعجوبة كل التعاسات الأخلاقية والتفاوتات الاجتماعية التي تشكو منها هذه المجتمعات، وتارة يسببان هرباً إلى الأمام نحو مغامرات متزايدة المخاطر، وتارة أخرى يحركان رفضاً قاطعاً لمواجهة تحديّات الأزمنة الجديدة.
ما أطول قائمة المنهزمين والمنبهرين بحضارة الغرب اليوم في منتديات وفي مؤسسات لبنان الخاصة والرسمية. وما أخطر المواقع التي يتبوأونها، ويطلون علينا ليل نهار على الشاشات والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعية وهمهم دك حصون هويتنا، وحضارتنا، وثقافتنا. ولن يزيد افلاس البلد هذه الدونية المصطنعة، الا دونية الفقر الحقيقية والتي ستكون الأسوأ على الاطلاق، لذا ان كنا لا نستطيع التحصن من خياراتنا السياسية التي أودت بنا الى القعر، فلنحاول التحصن في خياراتنا الثقافية علها تكون الملاذ الأخير.