نظرية التطور بين الإخوان الصفا وابن خلدون وداروين

Post
تشارلز داروين في رسم
شارك

يعتد الكثير من المثقفين العرب بوجود جذور لنظرية التطور (النشوء والارتقاء) التي تنسب الى تشارلز داروين في كتابه "أصول الأنواع The Origin of Species" لدى جماعة إخوان الصفا وابن خلدون.

لقد اعتبر الكثيرون في العالم، والعالم الإسلامي تحديداً، ان هذه النظرية مناقضة للرواية الدينية للخلق، تقلل من قيمة الإنسان، مما أثار جدلاً واسعاً، اتخذ في اغلب مظاهره مواجهة بين الفكر الديني والفكر العلمي.

الدخول الأول للنظرية الحديثة الى العالم العربي

قبل الغوص قليلاً في أصل الفكرة، ومن انتجها، وهي موضوع هذا النص، لابد من الإشارة انها وإن وجدت قبل كتاب داروين، فقد لاقت رواجها العالمي حصراً بعد كتابه الذي نشر سنة ١٨٥٩م، وذلك لأنها اختزلت بفكرة مبسطة مفادها ان القرد هو أصل الإنسان. لقد كان عنوان الكتاب الكامل "في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي"، لكن في الطبعة السادسة من الكتاب عام 1872م، تم تغيير عنوانه إلى الاسم المختصر: "أصل الأنواع ".

وقد جاء الاعتراض الكبير الأول على الكتاب من أسقف أكسفورد حيث صرح أن ما جاء في الكتاب: "لا يتفق بحال من الأحوال مع كلمة الله".

أما في العالم العربي، فلم يقتصر رفض النظرية على الأوساط الدينية الراديكالية إذا صح التعبير، حيث عارضتها أوساط إصلاحية منهم آباء ما اصطلح على تسميته "النهضة العربية" كجمال الدين الأفغاني ناشر جريدة "العروة الوثقى"، ومحمد رشيد رضا ناشر "المنار"، في حين ناصرها مؤسسو مجلة "الهلال" المصرية وناشرها الأديب اللبناني جرجي زيدان ومجلة "المقتطف" السورية التي نشرت لاحقاً في مصر، وناشراها كل من يعقوب صروف وفارس نمر. هناك تيار ثالث يمثله الشيخ أحمد عارف الزين ناشر "العرفان" في لبنان، ألقى الضوء على النظرية بانفتاح، كما فعل في مجلته، دون معارضتها او تبنيها، فتصرف بمهنية صحفية منفتحة.

وقد أصدر الدكتور شبلي شميل الطبيب اللبناني سنة ١٩١٠ أول كتاب عربي عن النظرية بعنوان "فلسفة النشوء والارتقاء". وكان شميل قد هاجر الى مصر بعد دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، وعودته من بريطانيا. كتب في "المقتطف" وقد تعرضت عيادته للاعتداء مرات عديدة من شباب أزهري، مما دفع السلطات المصرية الى الطلب منه التوقف عن كتاباته الاستفزازية.

أسس مع سلامة موسى مجلتهما الأسبوعية "المستقبل" سنة ١٩١٤ لكنها أقفلت بعد صدور ١٦ عدداً. بعدها استمر سلامة موسى في نهج تبنيه للنظريات العلمية من خلال ترأسه لمجلة "الهلال" سنة ١٩٢٣ لمدة ست سنوات.

أما الترجمة الأولى للكتاب، فقد كانت سنة ١٩١٨ في مصر، نفذها إسماعيل مظهر صاحب "مجلة العصور"، وهي الترجمة التي أكملها بعد وفاة الأخير الدكتور محمد يوسف حسن.

ماذا في النصوص العربية الأولى؟

نشرت جماعة الاخوان الصفا، وهي عبارة عن مجموعة من المفكرين في القرن الثالث هجري بين ٣٣٤ و٣٧٣ هـ، مجموعة من الرسائل وعددها ٥٢ حول قضايا الانسان والفكر والفلسفة والعقيدة، وتأثر بها العديد من مثقفي العصر من البصرة الى الاندلس. من الأسماء المشهورة في هذه الحركة كانت أبو سليمان محمد بن مشير البستي المشهور بالمقدسي، وأبو الحسن علي ابن هارون الزنجاني، ومحمد بن أحمد النهرجوري، والعوفي، وزيد بن رفاعة.

وحتى لو لم يتطرق الاخوان الصفا الى كل جوانب النظرية الداروينية، الى انهم انتهوا الى ان الانسان هو آخر المخلوقات بعد النبات والحيوان لانهما يشكلان غذاءه، أي انهما وجدا قبل الإنسان. ويرى إخوان الصفا حرفياً أن "الموجودات خلقت في سلسلة متصلة، منفصلة بعوامل الزمن، ما عدا الكائنات العليا مثل الإنسان والقرد وغيرهم حيث خلقوا من الطين مباشرة".

هناك من يرى أن فكر إخوان الصفا كان تطويراً لما قدمه أرسطو وأفلاطون عندما تحدثا عن "مفهوم السلسة العظمى للكائنات". حتى قبل سقراط، لدينا فلاسفة يونان تطرقوا الى موضوع التطور مثل أناكسيماندر وإيمبيدوكليس، الذين اعتقدا ان انواعاً من الحيوانات ممكن ان تنحدر من أنواع أخرى. غير أن ما طوّره إخوان الصفا يتعلق بالكلام المفصل حول القوى المؤثرة على الوجود والموجودات. فكان لهم السبق في تحديد سبب اختلاف الكائنات بتقسيمها إلى الهيولي (كالخلية الأولى) القابلة للتحول لأي صورة، والهيولات الثانوية (كالجينات) التي اعتبروا انها لا يمكن لها أن تتحول من صورة لأخرى.

ماذا عن مقدمة ابن خلدون؟

الفارق الزمني بين ابن خلدون وداروين أربعة قرون... هو تونسي المولد أندلسي، ولد سنة ١٣٣٢م. عاش بعد تخرجه من جامعة الزيتونة في مختلف مدن شمالي أفريقيا وغرناطة. كما تَوَجَّه إلى مصر، حيث أكرمه سلطانها الظاهر برقوق، ووَلِيَ فيها قضاء المالكية.

وبما أن ابن خلدون الذي يعتبر مؤسس علم الاجتماع الحديث، فطريقة تناوله لموضوع التطور وعلم الأحياء، كان مدهشاً. ولعل الأكثر دهشة انه درس القرآن الكريم الذي كان يحفظه عن ظهر قلب، واللسانيات العربية، وأساس فهم القرآن، والحديث والشريعة، والفقه وعلم التاريخ، ولم يصرح عن اي تناقض بين نظريته حول التطور والنظرة الإسلامية.

اذاً، الفقرة التي تحدث فيها ابن خلدون مباشرة عن موضوع التطور، تقع في المقدمة السادسة من أصناف المدركين من البشر بالفطرة او الرياضة، كما جاء في الكتاب. يقول ابن خلدون: "انظر الى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج، آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، مثل الحشائش وما لا بذر له وآخر أفق النبات مثل النخل والكرم متصل بأول افق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما الا قوة اللمس فقط ومعنى الاتصال في هذه المكونات ان آخر افق منها مستعد بالاستعداد الغريب لان يصير اول افق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت انواعه وانتهى في تدريج التكوين الى الإنسان صاحب الفكر والرَوية." *

والمستغرب ان كتاب ابن خلدون لم يثر الجدل الذي اثاره داروين رغم وضوح كلامه حول التطور!

إعادة فهم النظرية

لم يقتصر رفض النظرية على العالم الإسلامي وحده، ولم يقتصر سوء فهم النظرية كذلك على هذا العالم. مع ان سوء الفهم ساهم في رواج الكتاب وخروجه من دائرة المهتمين بالعلوم الى دائرة القراء العاديين الأوسع، لاسيما في الغرب. إلا أن مقارنة حجم القبول في المراحل الأولى قد تفيدنا أكثر. المنطلقات التي انطلق منها داروين ودراسته لعلم الأحياء أفضت الى ان التطور يتأثر بالعوامل الطبيعية وان كل الكائنات الحية على كوكب الأرض تشترك في نوع شامل أخير عاش على الأرض منذ القدم.

ويعتبر الكثيرون ان تشارلز داروين هو أول من صاغ نظرية علمية للتطور الذي يحدث بواسطة الاصطفاء الطبيعي. التطور بواسطة الاصطفاء الطبيعي هو عملية استدل عليها من ثلاث حقائق تخص التجمعات الحية:

النسل الذي يتم انجابه، يكون أكبر عددا لدى الكائنات القادرة على التأقلم مع محيطها الطبيعي.

السمات تتباين بين الأفراد، مما يؤدي لاختلاف معدلات النجاة والتكاثر.

السمات يمكن أن تنتقل من جيل لآخر- وراثية.

فالأفراد في التجمعات الذين يموتون يُستبدلون بنسل متكيف أكثر قدرة على النجاة والتكاثر في البيئة التي حدث بها الاصطفاء الطبيعي من خلال عوامل طبيعية، كالأمراض والكوارث... هذه العملية تُنتِج سمات بيولوجية أو خلقية تبدو ملائمة للأدوار الوظيفية التي تقوم بها الأجيال التي استطاعت البقاء، وتحافظ عليها.

هذه هي وباختصار سردية التطور كما نراها نحن الناطقون بالضاد، الباحثون دوماً عن دور مفقود في الحاضر وفي تطوير العلوم، التي كان لنظرية داروين فيها مساهمة كبرى. هذه المساهمة التي لازالت تخضع لذهنية الرفض او التحريم، وللنقض بدل النقد... مع أن النقد مرحب به دوماً، لأنه أداة تطوير العقل والعلوم.

* نص من كتاب مقدمة ابن خلدون، تأليف العلامة عبد الرحمن بن خلدون محمد بن خلدون الصادر عن دار الجيل، صفحة ١٠٦. لم يذكر تاريخ الإصدار.

شارك