دعوتُ محمد علي شمس الدين الى جميع برامجي التلفزيونيّة، ضيفاً انيقاً، ثقيفاً، يرفد الأثير بهدوئه الدمث، وعينيه الزرقاوين كسماء صيف. وذات مرّة شارك عبد الوهّاب البياتي امسيةً في بيروت، اواسط التسعينيّات، فسألته عنوان الشاعر لدعوته الى حلقة "بدون كرافات". في اليوم التالي وصلا الاستديو في سيّارة قادها محمد، لتكون الندوة التي جمعتهما من امتع الحلقات. لم نتّفق يوماً على موقفه من القصيدة المكتوبة بالنثر. هو رآها تغريباً للقصيدة وإفقاراً للشعر من موسيقاه المتحقّقة بالوزن. وأنا اجادل باعتبارها إعلاء لفرديّة الشاعر وجموح خياله في وجه ايديولوجيا الجماعة و"التراث الكريم" متمثّلين في نظام التفعيلة.
لكن شمس الدين انحاز الى "التراث العربيّ والإسلاميّ" في شعره، مستلّاً شخصيّات ورموزاً منهما ليس آخرها حافظ الشيرازيّ الذي تماهى وإيّاه ضمن مجموعة "شيرازيات"، والتي وقّعها شمس الدين مع العرفانيّ الفارسيّ ضمن ما اسماه ب"التناص". آخر محاججة لي معه عندما كان ضيف الحبيبة فاتن حموي في "صوت الشعب" قبل عامين. أرسلت اليه سؤالاً مفخّخاً: "اما زلت تهاجم قصيدة النثر جملةً وتمتدح شعراءها بالمفرّق؟" (وهي الملاحظة التي طالما ردّ بها بول شاوول على موقف شمس الدين من مجلّتي "شعر" و"مواقف") فاستثاره السؤال. خابرته بعد اللقاء وقلت "انا المستمع الذي دسّ السؤال الملعون في الحوار" فضحكنا.
ما كان يروقني او يجذبني شعره الأوّل ابتداء من "قصائد مهرَّبة الى حبيبتي آسيا" بغنائيّته المسرفة، او لاحقاً بمعدنيّته وجفاف نسغه. ثمّ في سهرة باذخة اوّل التسعينات في دارة السيّدة هدى النعماني، الشاعرة المتصوّفة ايضاً (فالتصوّف لا يعني الفقر او البؤس او النسك والتشرّد)، قدّم لي ديوانه "اميرال الطيور" بإهداء اخاله لم يقصده، اقلّه في الرتبة، "جوزيف عيساوي ايها الأميرال"، الى اليوم لا اعرف ااتى اعجابي بالكتاب (حتى اني تناولته بمقالة في مجلة "الشمس" التي اصدرها عبد الهادي محفوظ) مِن كرَم الإهداء وروح السهرة ونشوات المائدة، او من الشعر نفسه!
ولطالما بحثتُ في فوضى مكتبتي عن هذا الديوان لأمنح نفسي الجواب الشافي، كما فعلتُ هذا الصباح المزغول بنبأ رحيله، فلم اعثر عليه. لكن مجموعاته العديدة التالية حملت بأسئلتها الوجودية خارج إطار "الشعر الملتزم"، وصورها المكلومة بجراح الكائن، والمضمِّدة لها ايضاً، و"ذكائها" الموسيقيّ المحسوب، شعراً لا يمكن ان تفلت من شجنه، وتَفَكّره بالماوراء، بل وخنجره المسموم ضد الزمن، ضدّ الموت، وأحياناً معه: حيلةً علّها تؤخّره قليلاً، او علّه يرأف حين يغدر.
اعود الآن الى مجموعته "النازلون على الريح" (2013)، فأطوف على نهر كلماتها، مجلوَّة بالعشق، بالطبيعة ماءً وتراباً، بحراً وسهلاً، وادياً وجبلاً، وأوّلاً وآخراً بالشهوةِ الى الحياة او الموت بلا كثير فَرق. شعرٌ يجمع الى وحدة الوجود عشقَ المرأة والكون/الإله حيث يتجلّى المطلق، انبثاقاً من المادة نفسها، او حلولاً فيها من فوق. اما الشعر نفسه فلعلّه "الخمرة الإلهيّة"، بتعبير اهل التصوّف والعرفان، يذوقها الشاعر بينما يبتدعها في صبوات اليمة ووحدةٍ لا يختبرها الا الشعراء والنسّاك، كما المجانين والعشّاق، فتتطهّر الذات وترتقي، او هي تفنى في "المحبوب" بلا امل بالعودة، ربما، الا عشبةً نحيلة، ريشة في طير، او شربة عطشان في هجير.
كان محمد عليّ ممن عُرفوا بـ"شعراء الجنوب" في السبعينيّات، وكان جلّهم في احزاب اليسار ومنظّماته. لكن بعد معركة جرود عرسال كتب قصيدة في "المقاومة الإسلاميّة" قرأها عبر محطّة "المنار". وقبل عامين، بعد تطبيع الإمارات علاقاتها مع اسرائيل، سحبَ احتجاجاً ترشيح كتابه "آخر ما تركته البراري" المقدَّم بموافقته من "دار النهضة" الى "جائزة الشيخ زايد"، وهو المحصِّل "جائزة سلطان العويس". رغم محاشاة شمس الدين تناول ايّ من كتبي السبع في عديد الصحف والمجلّات اللبنانيّة والخليجيّة التي رفدها عقوداً بقلمه العارف، الحسّاس، هو ضيفي الدائم في التلفزيون، فوجئت قبل اعوام بمقالة له في "الحياة" عن مجموعتي "ميت سكران...". كتبَ: "هذا شعر غير شعريّ. شعر غير ادبيّ. جديد وجميل. مستفزّ ووقح. كلّ جديد وقح. أعني انه حقيقيّ ويأتي من خارج سياق الأدب".
وداعاً اذاً ايها الشاعر وإلى اللقاء في صحن الأرض يوماً. قبل هذا سنلتقي مع كل بزوغ وشفق، وفي كل خمرة تذاق، علويّة اكانت، في قصيدة، او على شفة عاشقين يغزلان الكوكب بالحُبّ، بالحُبّ لا بالحرب، كما الله قد يفعل.
*شاعر، اعلامي وكاتب