لم يكن التصريح الأخير لنوام تشومسكي جديداً حول موقفه من دونالد ترامب. لكن اللهجة اختلفت بعد تعامل الأخير مع تفشي وباء الكورونا المستجد. لقد قالها، هناك "رجل عصابات في البيت الأبيض"... في حواره مع إيمي غودمان على موقع democracynow.org.
لكن انصافاً للرجل، اقصد تشومسكي بالتأكيد، فإن اسهاماته الفكرية والألسنية أعمق وأهم من موقف اللحظة السياسية هذه على أهميتها.
لقد جسد تشومسكي خلال عقود نمطاً نقدياً للرأسمالية الأميركية ولأغلب سياسات الإدارات الأميركية التي عايشها، وبالتالي اكتسب موقعه ليس فقط من المادة الفكرية التي انتجها، بل ايضاً من جرأته كمثقف مستقل وجريء واكاديمي في جامعات أميركية كبرى.
سيرته الذاتية
تشومسكي أستاذ فخري في قسم اللغويات في جامعة أريزونا وأستاذ فخري في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث درس لأكثر من 50 عامًا. وُلد تشومسكي سنة ١٩٢٨ في فيلادلفيا في أسرة يهودية أشكنازية هاجرت من روسيا الى الولايات المتحدة.
ألف 100 كتاب حول موضوعات مثل اللغويات والحرب والسياسة والإعلام ولايزال يقوم بمهمة النقد السياسي والاجتماعي. يمكن مراجعة اعماله الكتابية والتصويرية هنا:
https://en.wikipedia.org/wiki/Noam_Chomsky_bibliography_and_filmography.
برز كمعارض صريح لتورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام بين ١٩٦٧ و١٩٧٥، التي صنفها عملا من أعمال الإمبريالية الأميركية. سنة 1967 اشار تشومسكي الى "مسؤولية المثقفين" في الموقف من التدخل في فيتنام. اعتقل عدة مرات بسبب نشاطه ووضع على قائمة أعداء الرئيس ريتشارد نيكسون. أثناء توسيع عمله في اللغويات على مدى العقود اللاحقة، أصبح مشاركًا في حروب اللغويات. بالتعاون مع إدوارد إس هيرمان، صاغ تشومسكي في وقت لاحق نموذج الدعاية للنقد الإعلامي وعمل على نقد الاحتلال الإندونيسي لتيمور الشرقية. ولد دفاعه عن حرية التعبير، بما في ذلك الحق في مراجعة الهولوكوست، جدلاً كبيراً. منذ تقاعده من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، واصل نشاطه السياسي الصوتي، بما في ذلك معارضة غزو العراق عام 2003. بعدها بدأ تشومسكي التدريس في جامعة أريزونا سنة 2017.
أثر تشومسكي على مجموعة واسعة من المجالات الأكاديمية. ساعد في إثارة الثورة المعرفية في العلوم الإنسانية، مما ساهم في تطوير إطار إدراكي جديد لدراسة اللغة والعقل. دوره كناقد سياسي للسياسة الخارجية الأميركية، والنيوليبرالية ورأسمالية الدولة المعاصرة، والموضوع الفلسطيني، وانماط الإعلام الإخبارية السائدة لم يتوقف. أثبتت أفكاره تأثيرًا كبيرًا في الحركات المناهضة للرأسمالية والمناهضة للإمبريالية، لكنها أثارت انتقادات أيضًا، حيث اتهم البعض تشومسكي بمعاداة أميركا.
حول الشرق الأوسط
كتب تشومسكي بشكل مكثف عن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بهدف رفع مستوى الوعي به. أيد منذ فترة طويلة حل الدولة الواحدة من خلال إنشاء دولة ديمقراطية تضم الجميع. وبالنظر إلى السياسة الواقعية، فقد فكر أيضًا في حل الدولتين بشرط وجود الدول القومية على قدم المساواة. مُنع تشومسكي من دخول الضفة الغربية في عام 2010 بسبب انتقاداته لإسرائيل. وقد تمت دعوته لإلقاء محاضرة في جامعة بير زيت وكان من المقرر أن يلتقي برئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض. قال متحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية في وقت لاحق إن تشومسكي مُنع من الدخول عن طريق "الخطأ"!
وفي تعليقه على تصريح وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الذي اعتبر فيه ان اغتيال قاسم سليماني عملاً من أعمال الأرهاب الدولي، ايد تشومسكي كلام ظريف واعتبر الاغتيال ارهاباً وانتهاكاً صارخاً للقوانين الدولية.
وبالعودة الى مقابلته الحديثة العهد مع إيمي غولدمان والتي أجاب فيها عن غزة قائلا: "في غزة مليوني شخص - يعيشون في سجن، سجن في الهواء الطلق، يتعرضون لهجوم مستمر. إذا انتشر الوباء في غزة فهي كارثة كاملة. أشارت المؤسسات الدولية إلى أنه بحلول عام 2020 - أي الآن - من المحتمل أن تصبح غزة بالكاد صالحة للعيش. حوالي 95٪ من المياه ملوثة بالكامل. المكان كارثة. وقد تأكد ترامب من أن الأمر سيزداد سوءًا. سحب التمويل من أنظمة الدعم للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، أي الأونروا، قتل التمويل."
تشومسكي والكورونا
أما في تعليقه على انتشار الكورونا، أشار الى إن فيروس كورونا التاجي خطير بما فيه الكفاية، لكن من الجدير ذكره أننا نقترب من الرعب الأعظم، وهو السباق إلى حافة الكارثة، وهو حدث أسوأ بكثير من أي شيء حدث للإنسان عبر التاريخ. ترامب وأتباعه هم في صدارة هذا السباق نحو الهاوية. الهاوية التي تتمثل في الواقع بتهديدين هائلين وجوديين. الأول، التهديد المتزايد لاندلاع حرب نووية، والآخر، هو التهديد المتزايد للاحتباس الحراري. يمكن التعامل مع التهديدين لكن لا يوجد الكثير من الوقت لتداركهما. الفيروس التاجي "كورونا" يمكن أن تكون له عواقب مرعبة. لا يمكن بعدها العودة إلى الوراء، حتى لو تم التعافي وحدث الانتعاش."
ويضيف: "حين سلمنا مصيرنا للاستبداد الخاص لشركات الأدوية التي لا تخضع لمساءلة الجمهور، يقول تشومسكي، ولمصلحة نفعية للنيوليبرالية المتوحشة التي تتحكم باقتصاد السوق وفلسفة العرض والطلب على مستوى العالم وليس في الولايات المتحدة فقط، حيث الطاعون الجديد المتمثل في النيوليبرالية يقودنا إلى الهلاك. لقد تمت خيانتنا من النظم السياسية التي تتحكم بها النيوليبرالية ويديرها الأغنياء ولا خيار لنا سوى "الخروج من الطاعون النيوليبرالي" للتعامل مع الأخطار المقبلة التي تلوح في الأفق. فالهند مثلاً حيث يقبع أكثر من مليار في العزلة الاجتماعية، ماذا سيحدث للذين يعيشون كل يوم بيومه "من اليد إلى الفم"؟ سيتضورون جوعاً ويموت المعزول وحيداً".
الناقد مُنتقَداً
طبعاً، يعتبر تشومسكي من المغردين خارج سرب "الوسط" الأميركي، وهو مكروه كل الكره من اليمين المحافظ. وقد تعرض للنقد من خلال مجموعة مقالات وكتب طاولت مقارباته الألسنية والسياسية والإعلامية وموضع المحرقة النازية.
أحدهم كتاب “القارئ المعادي لتشومسكي “The Anti-Chomsky Reader لبيتر كولير وديفيد هورويتز، الصادر سنة ٢٠٠٤، حيث توضع مجموعة من ابحاثه تحت مجهر النقد. تركز المقالات في هذا الكتاب الاستفزازي اسهامات تشومسكي في مراجعة المحرقة، واعتذاراته للطاغية الكمبودي بول بوت قائد الخمير الحمر، وموقفه من سياسات أميركا في أميركا اللاتينية في الثمانينيات التي صنفت بانها مماثلة "للنازية". كما انتقد الكتاب عداءه لإسرائيل!.
نصوص أخرى وكتب اكثر رصانة حرضها المفكر الكبير على نقده، منها كتاب "فك شيفرة تشومسكي: العلوم والسياسة الثورية “Decoding Chomskyهو كتاب اصدره سنة ٢٠١٦ عالم الأنثروبولوجيا اللغوية كريس نايت حول نهج نوام تشومسكي في العلوم والسياسة. ابدى نايت اعجابه بمقاربات تشومسكي السياسية، لكنه يجادل بأن نظرياته اللغوية تأثرت بافكار غير موضوعية من خلال انغماسه منذ أوائل الخمسينيات في ثقافة فكرية تهيمن عليها بشدة الأولويات العسكرية الأميركية، وان شومسكي تعمق في مقارباته هذه عندما حصل على وظيفة في مختبر إلكترونيات ممول من وزارة الدفاع الأميركية -البنتاغون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT.
في أكتوبر من العام نفسه، ابدى تشومسكي امتعاضه من الكتاب، مصرحاً لصحيفة نيويورك تايمز أن الكتاب اعتمد على افتراض خاطئ لأنه في الواقع، خلال فترة وجوده في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا لم يكن هناك اي "عمل له علاقة بالعسكرة في الحرم الجامعي" وبالتالي كيف له ان يتأثر هناك بثقافة تهيمن عليها الأولويات العسكرية!
كتاب فكري آخر تناول تشومسكي جدير بالذكر، هو كتاب “تشومسكي ومنتقديه “Chomsky and his Critics الصادر سنة ٢٠٠٣، حيث يقوم عشرة اكاديميين وكتاب بنقاش اعمال تشومسكي من خلال ابحاثهم المنشورة بمعالجة مجموعة متنوعة من القضايا المفاهيمية التي أثارها.
ليست المفارقات الفكرية وحدها هي التي أدت الى نجاح تشومسكي. منذ البداية، كان لديه تعريف دقيق لقواعد اللغة ثم انتقل الى الموقف النقدي من المجتمع والتاريخ والسياسة وهذه هي وظيفة المثقف بالتعريف السعيدي (نسبة الى أدوار سعيد). فتحية له في سنه الـ٩٣ وتحية لكل الباحثين عن عالم أكثر عدالة دون تمييز.