في نفس اليوم الذي كانت التظاهرة الخجولة المعترضة على سلة من القضايا تتجمع فيه في ساحة الشهداء أي في ٦ حزيران، كان هناك تظاهرة خجولة في تل أبيب ضمت بضعة آلاف من العرب واليسار الاسرائيلي اعتراضاً على خطة الضم "الترامبية" لأجزاء من الضفة، توجه خلالها المرشح السابق للرئاسة الأميركية بيرني ساندرز بكلمة للمتظاهرين عبر شاشة كبيرة.
في بيروت، واحدة من المسائل التي اضعفت الحراك المطلبي هي طرح البعض لموضوع نزع سلاح المقاومة خلال الدعوة للحراك، ما دفع رموز من اقصى اليمين لأقصى اليسار الى التحفظ، منهم لأسباب تكتيكية ومنهم لأسباب مبدئية. كما بدا موضوع الدعوة للاعتراض على وقف الضم والاستيطان في فلسطين المحتلة غير شعبي كذلك.
أما الساحة اللبنانية المعترضة فقد خلت من أي شخصية مجمع عليها -ولو من خارج الحدود- كبيرني ساندرز، فتصدرت مشهد الاعتراض اللبناني رموز "ضعيفة" الاستقطاب على المستوى الوطني من بقايا ١٤ آذار كأشرف ريفي. لقد أضاف تجمع ٦ حزيران المرتبك والمتسرع، من ارباك بعض المحاولات الأكثر عقلانية كالنداء الذي أطلقته مجموعة من الناشطين منذ أيام وعددهم يقل عن ٦٠٠ شخص، بينهم النائب شامل روكز والدكتور كمال اليازجي، والذي أشار الى ضرورة اكمال الضغط لإتمام الإصلاحات المنشودة التي كانت محرك ثورة ١٧ تشرين، وضرورة إطلاق إطار تنظيمي للثورة.
المفارقة التي حدثت في يوم واحد، هي بين وهنين لحركتي الاعتراض في مدينتين عدوتين، ولربما وهمين. وهما وهم القدرة على نزع السلاح في لبنان من خلال الشارع ووهم الاعتراض على وقف توسع الكيان المحتل في الداخل الفلسطيني من خلال الشارع... وهمان ينتجان حقيقة واحدة، انه في غياب اي استراتيجية لإزالة أسباب الخطر الإقليمي المتمثل بإسرائيل، لن يلقى طرح موضوع السلاح في الداخل اللبناني صدىً واسعاً بالطريقة التي يطرح فيها، ان لم نقل باستحالة تحقيقه لا بل حتى بخطورته، وقد شهدنا التوترات التي نتجت عن ذلك. وقد عبر النائب سامي الجميل وغيره من اخصام الحزب صراحة عن هذا الموقف، رغم أهمية وأحقية الحوار في أي مسألة تتعلق بالدفاع عن لبنان وبسيادته بين الجماعات والقوى اللبنانية قاطبة.
بالمقابل هل الرهان على وهن ٦ حزيران يمكن البناء عليه طويلاً؟ بالتأكيد لا… فالحركة البيانية للاعتراض على الطبقة الحاكمة الفاسدة في تصاعد مستمر رغم هبوطها المؤقت البارحة. هناك حتمية تداعيات انهيار الهيكل على الجميع ولو نجا أكثر كهان الهيكل السياسي وأصيب الجمهور الأوسع في قوته وكرامته. المعطى الذي لابد من التعامل معه باعتباره أولية قد تسبق الأوليات الإقليمية أياً تكن، هو وجع اللبنانيين المنهوبين على مدار ٣٠ سنة من طبقة حاكمة، جزء منها ضد، وجزء منها حليف للمقاومة وان بالشكل لا بالمضمون. ولعل الأكثر عرضة للنقد هو موقف الأحزاب المرتبكة من الثورة المطلبية في ١٧ تشرين بعد أطنان من وعود مكافحة الفساد سبقت الانتخابات النيابية الأخيرة وبعد تغطيتها الفساد ورموزه بكل ما بوسعها. ناهيك عن محاولة الإصلاح الخجولة لحكومة حسان دياب الذي يبدو انه يجيد التساكن مع التناقضات وبالتالي يقدم نفسه رئيساً هادئاً في بلد منهك بـ "ثورات صغيرة" منذ ١٧ تشرين. هو يطالب الثورة بدعمه، لكنه يتجاهل ان الثورة بحاجة الى "ثورجي" للتغيير... وإلا فليصارح الناس وليستقيل!
إن ادخال بند السلاح مع بنود المطالب المعيشية خلال التحرك الأخير ساهم في إجهاض هذا التحرك. ان كان ادخال هذا البند قد نتج عن قناعة او عن احقاد طائفية، او الاثنين معاً، لكن موقف حزب الله من الثورة وهو الطرف الأقوى ترك فراغاً للاستثمار السياسي ضده، عندما أعلن خروجه من الحراك، مفضلاً الحفاظ على الثلاثية او الرباعية، ولا أقول الثنائية مع حركة أمل فحسب، لاسيما انه حاول الدفاع عن سعد الحريري وعن "مشروعه الإصلاحي" المضحك-المبكي غداة انطلاق ١٧ تشرين وغض النظر عن كثير من شطحات التيار الوطني غير الاصلاحية! لقد فضل الحزب تحت تأثير الضغوط الدولية والإقليمية، والحسابات الداخلية الحفاظ على هذه الرباعية في هيكل سياسي ينهار، مقابل التخلي عن دعم جزء مهم من مطالب الثوار، ولو كانت متعددة ومربكة. وطالما ان الأفق المسدود للتغيير مستمر، سنبقى في مرحلة نزاع أهلي، نشهد فيه نزاعاً بارداً طويل الأمد، لن يؤسس الا الى مزيد من الانهيار الاقتصادي والمعيشي، ومن التفكك الاجتماعي والسياسي. فيما تغيب المبادرات الداخلية الفاعلة للخروج من الأزمة، ويبقى الرهان على المتغيرات الدولية والإقليمية. هذا لا يؤشر سوى الى استمرار النهج البالي في التعامل مع ازماتنا الوطنية.
هنا نعود الى طرف المعادلة الأقوى والحراك الأخير... ربما لا يريد القيمون على سلاح المقاومة التأثير على المترددين في فهمهم لدور السلاح في بناء او عدم بناء الدولة، وحتماً هم غير معنيين بالأخصام. لكن التأثير على جزء من حاضنتهم الشعبية التي سئمت وأصيبت بمقتلة نهب ودائعها ورواتبها ولقمة عيشها ككل المواطنين اللبنانيين والمودعين، لا مفر منه، وهي شريحة تكبر، ولو تكاذب بعض الخائفين من البوح بموقفهم الفعلي. المحطة الانتخابية النيابية المقبلة قد تكون فرصة تاريخية لبداية تحولات، قد نفوتها كغيرها، الا إذا أدرك اللبنانيون وبعض القوى الفاعلة منهم، ضرورة القيام بالتغيير نحو دولة مدنية جامعة، وهذا يقتضي التحضير لهذا التحول.
نعم على القوى الجادة في الخروج من الانهيار اذا وجدت، ان تبحث عن مسارات سياسية جديدة، وعلى الحراك انتاج خطاب جامع وإطار تنظيمي مقنع وخارطة طريق. أما من السلطة السياسية فنتوقع مفاعيل لا بيانات وزارية.
نتوقع منها مفاعيلاً جديدة، طالما فشلنا من التخلص من طغمة الفاسدين وغير الكفؤ في السياسة والقضاء والمصارف والاعمال ومن نظامنا السياسي الطائفي، وقد اتضح انه مكنة مبدعة في انتاج هؤلاء الفاسدين... اقل هذه المفاعيل، على المدى القصير، ان تحاول هذه السلطة في بياناتها الوزارية استبدال الشعب بأمواله علها تعيدها لأصحابها وتثبت سعر الصرف...
فتصبح البيانات الوزارية: ثلاثية الجيش، أموال الشعب والمقاومة. بعدها ليسمحوا لنا مثلاً بمساءلة رياض سلامة، مساءلة جدية، حول الأموال المنهوبة والمهربة ومن هم الذين نحروا البلد من الوريد الى الوريد، كي يكف العبيد عن عبادتهم!