لم تكن الوطنية اللبنانية يوماً، منذ ولادة دولة لبنان الكبير (١٩٢٠)، وطنية جامعة. "هذا الطفل، يوم وُلد، لم يكن أحد من أهله راغباً فيه…" بحسب المؤرخ والأديب احمد بيضون. ولم تتفق القوى السياسية الطائفية على معنى واحد للبنان في محيطه. في البداية، تحفظ بعض مسيحيّي الجبل على تكبير جبل لبنان وجهر المسلمون برفضهم لبنان الكبير، ثم تقبّل المسلمون هذه الوطنية وظلوا مصممين على تحسين شروطها. فكانت حينها هذه الوطنية "خجولة".
أما الفكرة اللبنانية فقد استبطنت "القومية اللبنانية" وأدخلت التواريخ الخاصة للمناطق المضمومة إلى جبل لبنان في منظور الطائفة المارونية التي أبرزت تاريخها على أنه تاريخ دفاع عن الاستقلال ومقاومة الحكم العثماني. في ميثاق ١٩٤٣، تُركت المطالبة بالوحدة العربية (أو السورية) مقابل ترك المطالبة بالحماية الأجنبية. فتميّز مفهوم "الوطنية" اللبنانية عن فكرة سوريا الكبرى وفكرة الوحدة العربية.
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وبفعل عوامل إقليمية عديدة أنعشت الاقتصاد، ترعرع نبضٌ وطنيٌ لبناني حديث. ونشأ جو من الليبرالية الاجتماعية، خاصة عند المسيحيين، بتأثير الغرب الليبرالي. ومع تقدم عملية بناء المؤسسات، تنامى الشعور بالانتماء الوطني. وسادت مصطلحات "الوحدة الوطنية" و"الدولة الحديثة" و"العدالة الاجتماعية". كلمة الطائفية كانت شبه منفية وكان الجدال الطائفي "ملجوماً". كان الجميع يعلم، أن الطائفية هي أساس النظام السياسي لكنهم كانوا يؤثرون التورية بالحديث عن "العائلات الروحية". ولعل تجربة منبر "الندوة اللبنانية" خير تعبير عن جو هذه الوطنية. فكانت محاضرات وحوارات وجوه الفكر والسياسة والثقافة تغّذي بيئة مؤاتيه للحوار بين الاسلام والمسيحية. لكن المحاورين لم يعالجوا المشكل الطائفي. وفي السبعينيات كثرت أسماء العلم المحايدة التي تخفي الهوية المذهبية. وفضّل البعض اختيار أسماء قابلة للفظ بالعربية والأجنبية تحسباً للهجرة القادمة ربما
أما في مرحلة النضال "الوطني" التحرري بعد نكبة فلسطين، دخل مفهوم الوطنية في عملية تدوير جغرافية، على وقع تطور الُمعاش وخصوصياته داخل كل قطر. صار التركيز على الوطنيات القطرية. في سوريا "قلب العروبة النابض" استقرت الوطنية السورية على عروبة الصمود والتصدي وعلى شعارات وحدة المسار والمصير. وبعد هزيمة المشروع القومي العربي، برزت وطنية فلسطينية استقطبت تطلعات الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. وبانت مركزية القضية الفلسطينية في الصراع مع المشروع الصهيوني. فتأثرت الوطنية اللبنانية، وبقيت مسألة مفتوحة على تصلب في المواقف المتعادية، وعلى تقوقع الطوائف على ذاتها، وعلى تزايد في تبعيتها للأطراف الخارجية. وأدت سياسة "القرار الوطني الفلسطيني المستقل" الى إزاحة الصراع مع المشروع الصهيوني، من صراع عربي-اسرائيلي إلى صراع فلسطيني-إسرائيلي، فشهدنا خلال الحرب الأهلية "لبنانوية" الوحدة الوطنية ذات اللون المسيحي، والحديث عن "الطوائف الوطنية"، ودعوات التقسيم. ووصلنا بعد اتفاق الطائف إلى "لبنان الوطن النهائي لجميع أبنائه"، وإلى شعارات "وطن الرسالة"، ولبنان أولاً. والآن كلٌ يُغنّي على ليلاه الوطنية في طوابير انتظار جوازت السفر الوطنية اللبنانية!
إذن، هذه الوطنية مطاّطة وتحمل أَعلام طوائفه "الملوّنة". فلبنان دولة يتدخل فيها الجميع. حدودها في حالة حرب مع اسرائيل ومفتوحة على التبعيات الخارجية وتبقى المشكلة في رؤية اللبنانيون لأنفسهم، ولهويتهم الذاتية. وكيفية تصوروهم لمستقبل دورهم داخل المحيط المباشر والأوسع. بهذا المناخ ترتسم الصورة الإجمالية للوطنية اللبنانية في أحسن الأحوال حلماً فيروزياً، وفي أوسعها انتشاراً، وطنيات مبندقة على سنّة: "الي بيتزوج أمي بيصير عمي".
لن يأتي التغيير الحقيقي إلا بعد إرساء علاقة نوعية بين المغترب والوطن. لبنان الراهن، وطنٌ لديه أبناء من نوع مميّز. فـ "الشعب اللبناني" تعرّض في تاريخه إلى هجرات متلاحقة. وكانت هجرته في أوقات السلم تفوق أيام الحرب. ويعيش اليوم، موجة هجرة كبيرة تطاول كل الطبقات والطوائف، وتنتج تشوهات اجتماعية. وتطاول بشكل خاص الجيل الشاب ما بين ١٩ و٢٥ سنة.
أبناء الشعب اللبناني يمكن تصنيفهم على هذه الشاكلة: هناك المقيمون بصورة دائمة، وهناك مغتربون هم في الواقع مواطنون لديهم عدّة أوطان (بحسب جهاد الزين) وتتغيّر علاقات أبنائهم مع وطنهم الأصلي بمرور الزمن. وهناك منّ يتنقل منه وإليه، لفترات قصيرة أو طويلة. وهناك فئة تعيش هجرة مؤقتة، أو هجرة باتت عتيقة، ولو أنها تعيش على أمل العودة يوماً. كما نجد بعض اللبنانيين الذين عادوا بالفعل لكنهم يتهجّرون من جديد.
بالإضافة إلى فئة "اللبنانيين المنقطعين عن وطنهم" منذ عدّة أجيال، والمغتربين على تنوعهم، فانهم يمثّلون الأكثرية من حيث العدد بغض النظر عن الأرقام الهمايونية التي تُعلن (هنا اهمية وجود إحصاء دقيق)، فمن الواجب أن يكون هؤلاء المواطنين متساوين في حقوقهم السياسية والإنسانية مع المقيمين. ومن واجبهم إبداء الرأي والنظر فيما يُرسم لهم من مصائر.
ولا يمكن تصوّر لبنان من دون مغتربيه، ولا إغفال خصوصيات العلاقة التي تربطهم بأرض الوطن، ولا اتساع الانتشار اللبناني في العالم. فلكل اغتراب قصة من حيث مدة الانقطاع ووتيرة التواصل مع البلاد. ونرى صورة لبنانيي الخارج، لاسيما في البلدان المتقدمة، أقرب إلى شخصية "المواطن العالمي" في ميوله وفي أنماط العيش والملبس. نجدهم ينخرطون بدون تعقيد في المجتمعات الجديدة. ينهلون من ثقافتها التي تعزز الإنسان الفرد، بغض النظر عن الجنس والعرق والدين، يحترمون الأنظمة والقوانين، يتقبلون بسهولة لافتة قيم المواطنة. ويتمسكون بقيمة الحرية الشخصية التي تمكّنهم من تنمية قدراتهم ومواهبهم، من غير معوقات كبرى، كما هي الحال في لبنان.
وقد سجل "اللبناني" نجاحات مرموقة هي مدعاة فخر واعتزاز للجميع. وهي تشمل كل المجالات البحثية في العلوم والاقتصاد والصحة والإعلام… ولديه خبرات من أعلى المستويات. فلا صحة لمقولة "كل فرنجي برنجي". لذا حان الوقت لأن نتعاطى بشكل مختلف مع الواقع الاغترابي، وأن نعطي مضموناً لشعارات مثل "للبنان جناحين". وأن نستفيد من احتياط الطاقات المعطّلة، وأن نجعل من العلاقة المميّزة مع الاغتراب، قيمة مضافة تكون أساس رؤية ومشروع للمستقبل. فلبنان، له أبناء يملكون قدرات اقتصادية، ويحظى بنخب قادرة على إعطاء معنى جديد للبنان القادم. والنخب الاغترابية تملك قدرة النظر عن بُعد، وتختبر نماذج حكم مختلفة، وهي أكثر حرية من نخب الداخل تجاه الضغوطات المتنوعة، والعقد المَرَضية القائمة في المجتمع اللبناني.
وإذا كان الوطني هو الذي يُحبّ وطنه ويتضامن معه في جميع الأوقات، فهل يمكن تحويل مقادير الحبّ التي يمتلكها اللبنانيون إلى مبادرات سياسية إيجابية.
نحتاج اليوم إلى وطنيين توحيدين لا طائفيين، وهم أكثرية في الاغتراب، يرفعون شعار حبّ الوطن وحبّ أرضه، وخصوصاً حبّ كل مواطِنيه. ولن يأتي ذلك إلا بنبذ مشاعر الحقد والكراهية من صفوفنا، وبالعمل على بناء دولة لاطائفية يكون ميثاقها المواطنة بما هي وطنية لبنانية جديدة، حريصة على كينونتها وتاريخ مجتمعها، وتحمل مشروع وطن متحرّر من أي هيمنة خارجية، وتبني الدولة العادلة والمجتمع على أسس انسانية نظيفة من المحسوبيات المذهبية، لعلها تصوغ نموذجاً يعالج النفوس العنصرية ويَصلح لأدوار كبيرة في تحقيق العدالة للقضية الفلسطينية والسلام.
*مداخلة ألقيت في جلسة حوارية أقامتها جمعية النهضة في باريس بتاريخ ٢٦ أيار ٢٠٢٣ وهي تستعرض، في قسمها الأول، الملامح التي اتخذتها الوطنية اللبنانية خلال قرن من الزمن، وتوجه الانتباه في قسمها الثاني إلى ضرورة علاقة نوعية مع الإغتراب.