للواء عباس إبراهيم عدة لقاءات مع الزمن السياسي اللبناني لا يمكن محوها، انتجها، إضافة الى الدور المناط به وعامل ادائه الشخصي، تراكم الاحداث التراجيدية التي شهدها لبنان منذ الأزمة السورية سنة ٢٠١٣. كان احتمال إعلانه في أكثر من مناسبة "رجل العام"، كما تفعل كبريات الصحف والمحطات الدولية في تقييمها الختامي لكل سنة ميلادية، احتمالاً طبيعياً.
الضابط الصاعد، الآتي من المؤسسة العسكرية، "المحسوب" على الثنائي كما هو حال المدراء العامين للأمن العام منذ سنة ١٩٩٨، قفز فوق هذا التوصيف الفئوي في نظامنا الطائفي الهش، في مرحلة انقسام سياسي حاد بعد اغتيال الرئيس الحريري، ليكتسب مصداقية بنكهة شهابية.
هذا الأداء، بمعايير الإدارة السياسية للدولة، جعل من اللواء ابراهيم مادة دسمة للنقد وحتى النقض... لكنه أدرّ عليه كذلك حجما غير مسبوق من النجاحات السياسية، وللدقة اقول "الدبلوماسية"، في اوج سقوط الدولة ودبلوماسيتها، حيث كانت مُحاصَرةً ومحاصِرةً نَفسها، منذ الحرب الأهلية وما تلاها من مرحلة الإدارة السورية لدمشق وبيروت معاً، ثم ما بعدها.
ملفات عصيبة واجهها اللواء، منها المعلن ومنها ما لم يعلن. فدوره الجدلي تطلب إدارة توازنات حساسة مع الثنائي وحلفائه كما اخصامه، هذا في السياسة. أما في الادارة، فالملفات التي تبدو للجمهور انها بين اخصام، هي في الواقع إدارة توازنات موروثة بين شركاء المحصصات من خلال التوظيف والخدمات، في المطار والمرفأ والحدود...
اذاً دوره السياسي العام، له وجه اداري داخلي من خلال الأمن العام وخدماته وحضوره، ووجه سياسي إقليمي ودولي، تطلب طرق أبواب العواصم لحل عقد كبيرة، وقد نجح... بهذا المعنى في الإدارة هو جزء من التركيبة مع مسافة اوجدها لنفسه، وفي السياسة فقد تميز مدعوماً بعاملين يوظفهما بحسب الظرف في كل الاتجاهات السياسية: التمثيل الرسمي كرجل دولة، والتمثيل الجهوي، كرجل محور الممانعة.
لكن هل لهذه الصورة الايجابية التي أُنتجت عن اللواء إبراهيم ما يستدعي التشكيك! لكل ناقد الحق في طرح هذا السؤال الذي لا إجابة عنه سوى من خلال تقييم موضوعي لأداء الرجل. فالملفات السياسية التي تولاها اللواء ووصفتها بـ"الدبلوماسية"، باعتبار انها قد تتقاطع احياناً مع المهام الدبلوماسية، أتت اغلبها مفاوضات ناجحة لإطلاق لبنانيين وأحيانا غير لبنانيين (قطريين، ألبان، كنديين الخ...)، من دول عدة بينها سوريا وإيران والإمارات... ملفات استجلاب النفط من العراق مع الرئيس الكاظمي، ملف القلمون، راهبات معلولة، نزار زكا، عشرات من الموقوفين اللبنانيين في الامارات، وعشرات ممن كانوا قيد الترحيل... هذا البعد المتعلق بدوره الاقليمي وصورته المتشكلة هناك، قد يكون الأهم في تقييم اللواء إبراهيم لاسيما في هذه المرحلة الحساسة، التي تساهم في تقديم خدمات كبيرة للبنانيين. لقد سمعت شخصياً شهادات لعارفيه من بعض الدوائر العربية النافذة ولمغتربين ونقلاً عن بعض الأصدقاء، تتحدث عن فاعليته وتأثيره، شهادات تتحدث عن مكانته الشخصية، إحداها وصفته، واقتبس هنا، "بانه احد آخر رجالات الدولة في هذا الطاقم السياسي اللبناني".
اللواء الرصين كما بدا في اكثر من مناسبة اعلامية، آخرها المقابلة الاذاعية على إذاعة لبنان الحر في ١٨ أيلول، مع المحاورة رولا حداد، والتي بثّتها "الأم تي في" في اليوم التالي... الآتي من أسرة عاملية معروفة وميسورة، الصاعد الى اعلى الهرم الوظيفي منذ استلامه الأمن العام سنة ٢٠١١، لازال يواجه احتمالات خطرة تتعلق بمستقبله السياسي، لاسيما انه بات رقماً صعباً في معادلة، يريد اخصامه من داخل البيت الشيعي ومن خارجه انهاء حياته السياسية فيها، عند حدود "الموظف الكبير"، كي لا يخرج الى ما بعد الوظيفة الإدارية بعد نهاية ولايته في الأمن العام، فيتبوأ منصباً سياسياً، وهو ما قد يفسر ردة فعله على العديد من الملفات التي طاولته مؤخراً، ومنها ملف الاستدعاء للتحقيق في قضية المرفأ، والأسئلة التي أجاب عنها حول طموحه السياسي المشروع.
لقد تصاعد هذا التوتر المُعبّر عنه في تغريدات تويترية عدة، منها ما اتى به من خارج البيت النائب وليد جنبلاط على ضوء مقابلة اللواء إبراهيم الأخيرة، في محاولة لفتح ثغرة بينه (أي اللواء وبين الرئيس بري)، عاكساً موقفه (أي النائب جنبلاط) المتحسس من موقع المديرية العامة في مرحلتها السورية أيام اللواء جميل السيد، ومن شبكة علاقات اللواء إبراهيم الإقليمية، لاسيما السورية... ومنها ما اتى به اللواء جميل السيد من داخل البيت، الذي دأب منذ مدة على لسع اللواء إبراهيم عبر تغريداته المنفعلة. وللواءين فضل كبير في تحديث الامن العام من حيث جودة الخدمات وتطوير هذه المؤسسة، برغم بعض الضغوط الخدماتية التي تعرض لها الأمن العام خلال المرحلة الأخيرة من انهيار البلد الاقتصادي، حيث كثرت طلبات جوازات السفر بشكل غير مسبوق. لكن من باب المقارنة، تسجل للواء إبراهيم نقطة بغاية الأهمية في موضوع احترام الحريات والصلاحيات، حيث لا تكاد تسجل حادثة تطاول واحدة على أي شخصية صحافية، في حين ان اللواء السيد سمح لنفسه بتخطي دوره الوظيفي في تأنيب او ترهيب الإعلاميين في اكثر من موقعة.
أما في البيت الشيعي المعارض، فقد علق الصديق رياض الاسعد في صفحته على الفايسبوك بعد مقابلة اللواء الأخيرة، متلقفاً رغبته السياسية، فدعاه الى التعاون لتشكيل لائحة انتخابية، وهو ما يؤشر الى مكانة الرجل ليس في أوساط المعارضات الطائفية فحسب، انما ايضاً داخل البيت الشيعي المعارض، الذي يحاول ان يصحح بعض الاداء السياسي الذي انتجته الصيغة الثنائية، والذي يبحث عن شخصيات لها تأثيرها الشعبي.
ورغم صعوبة البحث في تشكل هكذا تحالفات، لان اللواء ليس مشروعاً انشقاقياً عن الثنائي، لابل ان صعوده ارتبط برعاية وصعود الثنائي. ورغم تشكل صورته كحاجة لبنانية وشيعية، لها امتداداتها الداخلية والإقليمية وحتى الدولية، لاسيما بعد جولة لقاءاته في باريس وواشنطن ولندن، فان احتمالات الترشح الى الندوة النيابية قد تكون مفتوحة امامه ضمن لوائح اخرى، في حال تجاهل الثنائي احتواءه، لاسيما، وافترض هنا هذه المفارقة، ان تصوّر وصوله الى رئاسة المجلس على المدى الطويل يبدو نظرياً أسهل من وصوله الى المجلس على المدى القصير... لكن دون دخول المجلس لا رئاسة! وربما قد يقتضي دخول المجلس شرط اللا رئاسة.
في المقابلة الأخيرة نجح اللواء في تقديم نفسه كرجل دولة، لا كرئيس جهاز في الدولة. فهل سيضع الرئيس بري فيتو امامه، ام سيسهل دخوله كاحتمال لضمان المرحلة الانتقالية بعده، او كمجرد نائب عن الأمة وذلك لاحتوائه؟ وهل سيلتزم حزب الله بثنائية جديدة بعد الرئيس بري، ام ان اعتبارات المرحلة ستغير قواعد اللعبة؟ وهل ستُستثمر هذه "الشهابية الشيعية" من الثنائي وحتى من اخصامهما في لحظة شبه اجماع سياسي، لتقديم مخارج ما لأزمة النظام السياسي؟
اختم بقول للجنرال ديغول الآتي من الجيش الى الرئاسة، واترجمه بما معناه:
"السياسة هي مسألة جدية جداً، لذا لا يمكن تركها للسياسيين"!
"La politique est une chose trop sérieuse pour être confiée aux politiciens"