للصدفة، قمت قبل أسبوعين من حلقة الإعلامي الناجح نيشان على تلفزيون الجديد التي استضاف فيها الوزير السابق وئام وهاب، بالاتصال بأستاذي الجامعي السابق وصديقي الدكتور كمال اليازجي طالباً منه حقوق ترجمة نصه الإنجليزي عن المجازر بحق الأرمن لنشرها على صفحات "هنا بيروت". وهكذا فعلت بعد موافقته مشكوراً، وبعد ترجمتها بعناية نصرة لهذه القضية المحقة، لاسيما انها مأساة مباشرة لمجموعة لبنانية معتبرة، وهي كغيرها من القضايا الإنسانية تستحق كل الاهتمام منا. وقد عدّلت العنوان فجعلته "أمضوا قدما... قصة إبادة الأرمن". وأمضوا قدما، هو اقتباس من جملة يروى ان هتلر قالها مخاطباً ضباطه للقضاء على اليهود والغجر وغيرهم، وهي: "امضوا قدماً، اقتلوا بدون رحمة. فمن الذي يتذكر اليوم إبادة الأرمن؟". هذا الاقتباس استخدمه نيشان ايضاً في خطابه أمام "الحكيم" وجمهوره.
وللصدفة أيضاً، انني كنت قد عملت سابقاً على قضايا حقوق الإنسان من خلال مجلة حريات في مؤسسة الرئيس الراحل رينيه معوض وغيرها من المؤسسات الحقوقية، ذلك في مرحلة الإدارة السورية للسلم الأهلي اللبناني، حيث كنت من الأبواق القليلة المعترضة والمنتقدة لممارسات الأجهزة اللبنانية والسورية بحق المعارضين ومنهم القوات اللبنانية والتيار العوني، في ضفتي السياسية. فأنا، وأقول "بيتي"، لم يكن ينتمي او يتعاطف عندها مع مواقف البيئة السياسية الحاضنة لهذين الحزبين المضطهدين آنذاك، بل كنت اتعاطف مع حقوقها وحريتها بالتعبير وكرامتها السياسية. اولوياتي إضافة الى حقوق الانسان وما كنا نعتبرها محاولات لبناء الدولة، كانت مرتبطة بتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وبدعم المقاومة. أقوم بهذا التقديم لأقول، ان الموضوع ليس غرضه التعرض للإعلامي الزميل الذي يهتم عادة بالإعلام الفني، ولا حزب القوات اللبنانية الذي له الحق بالموقف السياسي الذي يريد، وهو شارك في الحرب الأهلية ككثير من الأحزاب الأخرى...
موضوع هذه السطور هو بصدد نقد اللحظة ومعانيها، لأنها تعبر عن مجموعة من الإخفاقات لم يقع فيها الإعلامي نيشان وحده، بل يقع فيها يومياً الكثير ممن هم على الضفاف المتخاصمة للنزاع الأهلي المستمر. الإطلالة اذاً عبر منبر القوات اللبنانية في معراب دفاعاً عن موقفه وتناولاً للإبادة، هي صلب المسألة. لأنها تسيء الى الإعلامي نفسه والى القضية الأرمنية المتمثلة بالمجازر بحق الأرمن التي حدثت على دفعتين، المجازر الحميدية بين ١٨٩٤ و١٨٩٦ والإبادة التي بدأت في نيسان سنة ١٩١٥ وهي جزء من إبادة أوسع طاولت الأقليات المسيحية في الدولة العثمانية بين عامي ١٩١٤ و١٩٢٣. وانا غير معني ولن ادخل في الموضوع الشخصي المتعلق بأردوغان، او بردات الفعل القانونية للسفارة التركية او غيرها في هذه السطور.
إن براعة سردية نيشان من الزاوية الشخصية لحديث دار بينه وبين جدته، عندما أشار الى الجزمات السود التي دخلت منزلها وذبحت أمها وابيها وهي مختبئة تحت السرير، وجمالية وصفه "السينمائي" للفاجعة الأرمنية، لا تغطي اخفاقه في عدم فهمه او احتسابه جيداً معنى الحديث عن المجازر الأرمنية من خلال هذا المنبر. رمزية، لا تقلبها بقايا لبنانيين لا يريدون إلا بعض الاتزان للحياة السياسية العامة في ظل هذا الجنون الجامح وآخره بعض ردات الفعل على حلقة نيشان. الإخفاق من على هذا المنبر، يتعلق بنيشان وحده وليس بمن دعاه الى الخطابة. اذاً هو اخفاق بنقطتين رئيسيتين.
أولهما في الشكل، وهو لا يقل أهمية عن المضمون. شكلاً، خرج الخطاب لمن له ذاكرة، من على منبر مدرسة طائفية لها تاريخ طويل بالذبح على الهوية وفي الخطف والتصفية خلال الحرب الأهلية... وهي مجازر ارتكبت، ولو كانت أصغر حجما من تلك التي حدثت للأرمن، الا انها أقرب زمناً. فقد بدا نيشان غير آبه بهذا البعد الذي يضفي عليه اما صفة "اللا نضج" السياسي، اما تماهيه مع هذا التيار قناعة او في لحظة ضعف نفسية تطلبت "الاحتماء" بتيار طائفي مسيحي بوجه اتباع ما سماهم "العثمانيين تارة والأتراك تارة أخرى"... وفي الحالتين أصاب موقفه الأخلاقي تجاه المجازر بمقتلة، حتى لو اعتبر ان تبني الحكيم لشعاره "الحق حق ولو عمرو فوق الـ ١٠٠" انجازاً! أي انه دخل لعبة مسيحي-مسلم بعد ان جره الشارع الموتور اليها. فبدا مثل هذا الشارع موتوراً، جريئاً وطائفياً، وهذا يفرغ مضمون كلمته ويفرغ من رصيده كإعلامي سياسي متوازن.
واستهل الملاحظة هنا لأقول إن الحديث عن فرادة المعاناة، من منبر سبب سابقاً معاناة لآلاف الأشخاص إما قتلاً أو إخفاءً، سقطة كبيرة. كان الأجدى ان يقدم نفسه متفهماً لحساسيات الآخرين عندما يطل من هكذا منبر ومن موقعه كإعلامي لبناني شاب وصاعد، وان يدرك ان لا فرادة لمأساة على أخرى... لا موت أهم من آخر. فالمقتولين على الهوية سنة ١٩٧٥، والمقتولين في صبرا وشاتيلا، او في الدامور او عبيه، او في حولا وقانا، أو في الهولوكوست او في العراق وسوريا او في أرمينيا وديار بكر وأنطاكيا او سريبرينيتشا او أوغندا، وان اختلفت دياناتهم واعراقهم واوقاتهم وادوارهم، كلهم قتلوا نتيجة تعبئة دينية او عرقية او سياسية قامت بها وحوش بشرية... الكل لديه مأساته وكلها مآسي يندى لها الجبين بغض النظر عن احجامها، وهي لا تعالج الا من منابر وكتابات ليس لها صلة بهذه التواريخ السوداء اذا كنا بحجم المسؤولية، وإلا تسقط قيمتها المعنوية لتدخل في بزار تقييم الذبح والذبح المضاد! الخيط بين الضحية والجلاد رفيع في أوقات الازمات، وبالتالي خطورة التشديد على فرادة المعاناة لا ينتج الا كراهية تؤسس لمجزرة أخرى قد تستفيق ولو بعد حين... أنا شخصياً أرى الصلة الواضحة والقريبة زمنياً بين الهولوكوست ودير ياسين. فحس الضحية في الحرب العالمية الثانية أنتج جلادين جدد بعدها مباشرة.
ثانيهما في المضمون. فاللغة التي استخدمها نيشان في الحلقة التلفزيونية نفسها وعلى المنبر القواتي تشي بعدم حساسيته في استخدام المصطلحات وبتكوين ثقافي شعبوي بات سائداً في لبنان، ربما تحت ضغط اللحظة التي امتلأت بردات فعل شارعية عنيفة ضده وصلت الى حد شتمه وتهديده والتعاطي مع أرمنيته باعتبارها "وافدة"... وهو اعتبار لا يستثنى منه المصفقون له اثناء خطابه من على منبر القوات اللبنانية. وهو يعلم ذلك! كما ان المصطلحات التي استخدمها، حين ردد صفات غير لائقة بحق الاتراك والعثمانيين جمعاً، دون تخصيص من قام بالمجزرة والابادة، مغفلاً ان الكثير من الاتراك والعثمانيين، كانوا ضد هذه المجازر ومنهم من قتل لحمايته الأرمن. فخطاب الكراهية العام ضد الجماعة، هي كراهية تعبر التاريخ، وهي نفسها التي جعلت الإبادات ممكنة. من يكره "الأرمن" أو "العرب" او "الفرس" او "المسلمين" أو "السنة" او "الشيعة" او "الموارنة" او "الدروز" أو... لا يرى في المكروهين أفراداً وأسماءً وأسراً وقلوباً تخفق، ولا يرى فيهم اعتراضاً داخلياً واختلافاً وتمايزاً، بل قطعان عدوة أقل "قيمة" أو أكثر، لكنها تستحق اللعن جمعاً... هذا اللعن يؤسس لظروف أخرى ان توفرت، ستسمى "إبادة". كان يمكن استخدام تعابير أخرى، مثل "المسؤولين عن المجازر بحق الأرمن من العثمانيين"، على سبيل المثال لا الحصر.
لقد أساء نيشان، للقضية الأرمنية ولنفسه، من خلال هذا الموقف المتسرع واللغة المستخدمة، من خلال اختياره هذا المنبر دون عناية، تحت وطأة هذا الاشكال، وبدا يحتاج الى حماية ميليشياوية، بوجه شارع آخر، مع ان لديه ما يكفيه من المنابر-الشاشات. ولنؤاخذه، فلربما هو غير مهيئٍ لهذا الدور.
ولا حاجة لمنابر جماهير الطوائف، فهي تافهة وخطيرة في آن واحدة، وهي اليوم أكثر خطورة لأنها تشكل وقوداً للنزاعات الاهلية المستمرة، بينما تقوم بتفتيت ما تبقى من المناعة الضعيفة أصلاً في محاربة الفساد وإعادة تكوين السلطة على أسس المواطنة في بلد منهوب ومسلوب.
الاتزان بات حاجة هذه الأيام، لاسيما على المنابر الهابطة، كي يبقي في لبنان طبقة اجتماعية تعيد لحمته وتنتج خطاباً جامعاً، الأكيد فيه أن خطاب نهاد المشنوق بعيد عنه...