النزاع الذي استمر كمرحلة اولى من عام 1975 إلى عام 1990، وأسفر عن مقتل ما يقدر بـ 120 ألف شخص وتشريد الملايين، لم ينته مع وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان، وذلك بوساطة سعودية في مدينة الطائف عام 1989.
ما تبع ذلك كان نزاعات منخفضة الكثافة low intensity conflict، تتميز بأنها أقل كثافة من الحرب التقليدية.
وبالعودة لتاريخ لبنان الحديث، تتابع أمامنا أحداثاً كثيرة أبرزها عامية طانيوس شاهين عام 1858، مذابح جبل لبنان في عام 1860، وأزمة عام 1958 التي كان سببتها توترات سياسية ودينية، وشهدت تدخل القوات المسلحة الأميركية، وصولاً لحادثة عين الرمانة والتي تلتها جولات عنف وقتل وذبح وتشريد، والاجتياحات الإسرائيلية عام 1978 و1982، كما الحروب الواسعة التي شنتها إسرائيل على لبنان عام 1993و1996 و2006.
لماذا الإصرار على التكاذب حول مشروع كيان غير مكتمل أعلنه في 1 سبتمبر 1920 الجنرال الفرنسي هنري غورو تحت اسم دولة لبنان الكبير بعد إعادة ترسيم الحدود بين البلاد التي كانت خاضعة للحكم العثماني ومن بينها سوريا ومتصرفية جبل لبنان؟
ومن كان أوضح من جورج نقاش في إعلان فشل هذه الدويلة في مقالته بالفرنسية في صحيفة لوريان عام 1949 عام بعنوان "إن سلبيتين لا تصنعان أمة"
"Deux négations ne font pas une nation"؟
لقد قدم طرح الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية في برنامجها للإصلاح الديمقراطي للنظام السياسي اللبناني في 18 آب 1975، تصوراً للحل وذلك ضمن البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية. تضمن البرنامج تحليلاً شاملاً لحقائق الوضع اللبناني في الميادين الوطنية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية، مركزاً على أن إختيار الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية لقضية الإصلاح الديمقراطي في النظام السياسي تمليه في الواقع الأولوية التي تحتلها هذه القضية في المرحلة الراهنة من تطور في لبنان.
وبحسب ذلك البرنامج كان واضحاً أن الحاجة إلى التغيير في مختلف المجالات تصطدم أساساً بتخلفِ النظام السياسي وعجزهِ بمختلف مؤسساته عن أن يشكل إطاراً لعملية التطور الديمقراطي المطلوب.
إن ما شهدته شوارع بيروت والشياح وعين الرمانة في الأيام الاخيرة من هتافات واشتباكات مذهية وطائفية يأتي في سياق هذه الصيرورة التاريخية .
لقد عالجت أبحاث كثيرة المسألة الطائفيّة في لبنان. ومنها أبحاث تناولتها من وجهة نظر تاريخيّة، وأبحاث أخرى من وجهة نظر سياسيّة، فضلاً عن أبحاثٍ ركَّزت على الطائفيّة، ومنها رؤية واضع دستور استقلال لبنان ميشال شيحا.
وثمّة بحوث عالجت مسألة النظام السياسي من وجهة نظر يسارية ماركسية، حيث تنوعت آراء المفكّرين والسياسيّين ممن يعارضون الطائفيّة. فثمّة عددٌ كبير من المفكّرين والسياسيّين اللّبنانيّين المُعاصرين الذين كتبوا ضدّ الطائفيّة ودعوا لإسقاط النظام الطائفيّ. ونشرَ يساريّون لبنانيّون أفكاراً متميّزة حول المسألة الطائفيّة، من خلال محاولاتهم السياسيّة لإلغاء النظام الطائفيّ.
في مؤلَّفاته عرّف الكاتب اليساري الراحل مهدي عامل الطائفيّة بوصفها "الشكل التاريخي المحدّد للنظام السياسي الذي تُمارس فيه البورجوازيّة اللّبنانيّة سيطرتها الطبقيّة مضيفاً أن الطائفة ليست كياناً أو جوهراً. إنّها علاقة سياسيّة يُحدّدها شكلٌ تاريخي معيّن من حركة الصراع الطبقي، هو الذي تتحكّم فيه البورجوازيّة بهذا الصراع، في غياب سياسي لنقيضها الطبقي. والعلاقة السياسيّة هذه علاقة تبعيّة طبقيّة تربط الطبقات الكادحة بالبورجوازيّة ربطاً طائفيّاً".
هذا التحليل يؤيده الوزير السابق الدكتور جورج قرم في حوارات نشرت عام 2019 قال فيها أنه في لبنان تحديدًا يرى أنّ الفئة الحاكمة "مصابةٌ بمرض التوحّد"، فهي ليست قادرةً على رؤية الشعب، ولا تعيره أدنى اهتمام، وهي سعيدةٌ بوجودها، وغارقةٌ بالفساد والإفساد. وهذا كلُّه أدّى إلى الانتفاضة الشعبيّة الحاليّة التي عمّت المناطقَ اللبنانية. إنّ مَن تأمّل الواقعَ اللبنانيَّ منذ سنوات لم يكن ليشكَّ لحظةً في إمكانيّة انفجار الشارع اللبنانيّ. المسألة كانت مسألةَ وقتٍ لا غير.
ويضيف قرم أن لبنان خرج من حرب أهلية دامت 15 عاما بدين عام لم يتجاوز المليار ونصف المليار دولار، ليجد نفسه حالياً أمام دين تجاوز المئة مليار دولار أميركي، وهو يراهن على قوة حركة الإحتجاج وعفويتها وشعاراتها ولكنه يخشى عليها من أهل النظام الطائفي الذين يستميتون عادة للدفاع عن مصالحهم.
هل مواجهة التردي الخطير على المستوى الاقتصادي ـ المالي والفساد المستشري في كافة مرافق الدولة والناتج عن المحاصصة والزبائنية والطائفية، تتم من خلال عقد اجتماعي جديد أو مؤتمر تأسيسي أو من خلال "الفدرالية" كأبغض الحلال؟
يقول المفكر توماس هوبس أنه في غياب القانون والنظام السياسي، ستكون لدى جميع مكونات المجتمعات حريات طبيعية لا حد لها، بما في ذلك حق الوصول إلى كل شيء. في لبنان تمكنت الطبقة الطائفو-سياسية المهيمنة من القيام بممارسات خارج سلطة الدستور أو القانون؛ فانطلق الفساد من عقاله غير آبه بأية رقابة أو حوكمة او محاسبة.
قبل الاحتجاجات الاخيرة انشغل الرأي العام في لبنان أيضاً بمسألة طائفية اخرى تمثلت بقانون العفو العام الذي يشمل السجناء الإسلاميين والمبعدين إلى إسرائيل بعد انتهاء احتلالها جنوب لبنان؛ وبعض السجناء الآخرين المحكومين بقضايا المخدرات وخلافها.
وقد فشل "اللويا جيرغا" أو مجلس النواب اللبناني، في إقرار قانون العفو العام وذلك بسبب خلافات وانسحابات وخلافات حادة بين مختلف الأطراف على خلفيات سياسية وطائفية.
ولا يمكن وصف المؤسسة التشريعية اللبنانية بغير "تجمع موسع للمجموعات القبلية الطائفية"، خاصة إذا أدركنا أن كثيرين من أعضاء اللويا جيرغا اللبنانية هم من محدودي الرؤية والبصيرة لكنهم أعيان في مجتمعهم القبلي، يأتون للتشاور في حل المشاكل المتعلقة بالشؤون السياسية والعامة، أو تبني دستور جديد، أو حل مشكلة وطنية أو إقليمية.
لقد طرحت اشكالية "العفو العام" بشكل يؤمن التوازن بين الحفاظ على العدالة وبعض الصفح والرحمة، تعويضاً من الدولة عن مسؤوليتها في اكتظاظ السجون في زمن جائحة تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وعن التأخير في المحاكمات.
يتوزّع المستهدفون من قانون العفو العام على مختلف المناطق اللبنانية، وينتمي هؤلاء إلى مختلف الطوائف. وتقوم المحاصصة المذهبية بدور مزدوج: فمن جهة، تمنح أملاً لأتباع المذاهب بإمكان إقفال ملفاتهم القضائية ضمن"معادلة" تنبثق من مبدأ "ستة وستة مكرّر" تساوي بين جرائم تتفاوت خطورتها الجنائية والمجتمعية.
إلا أن العفو العام ووفق نادي القضاة في لبنان هو "أمر استثنائي يتخذ في مراحل مفصلية من تاريخ الشعوب والأوطان" و"تحرير المجرمين تحت ذريعة حل مشكلة السجون بسبب الخوف من تفشي فيروس كوفيد-19 يزيد منسوب التجرؤ على مخالفة القانون وارتكاب الجرائم.
ونوه نادي القضاة إلى أن القانون المقترح لا يشمل جرائم الفساد كتبييض الأموال والإثراء غير المشروع وسواها، إلا أنه يشمل هذه الجرائم بتخفيض العقوبة. وهو ما يناقض توجهات الحراك المنادي بالتغيير في لبنان منذ 17 اكتوبر 2019.
لكن السؤال يبقى كيف نستطيع الصفح؟
يميّز المفكر الفرنسي جاك دريدا بين الصفح وبين مفاهيم تنخلط معه غالباً مثل الغفران، التوبة، العفو، الاعتذار، الندم… إن هذه المفاهيم تختلف عن الصفح، لأن الصفح ليس مفهوماً سياسياً، ولا قانونياً، ولا تشريعياً، ولا حتى دينياً. يجب تحرير الصفح من القواعد والحسابات السياسية، فالصفح يجب أن يكون غير مشروط. ويشدد دريدا على أنه لا ينبغي للصفح أن يكون طبيعياً ومعيارياً أو تطبيعياً، بل عليه أن يظل استثنائياً وخارقاً وعلى احتكاك دائم مع المستحيل.
وفي كتابه "المراقبة والمعاقبة-نشأة السجن" الصادر عام 1975 يشرح ميشيل فوكو كيف أن السجون جاءت كترجمة مباشرة لفكرة "الحجز" على كل من يرتكب جنحة أو جرماً. بالتالي كانت ممارسة ترمي، كما تمّ تقديمها، لتصحيح السلوك، تشتمل على نوع من انواع العقاب اللاجسدي، أو معاقبة ما هو غير جسدي. فإذا كانت القواعد القانونية تمثل جانب "الماكرو سياسي" فإنّ الانضباط يجسّد البعد "الميكرو سياسي" وهو جانب مخفي ولا مرئي. ومسألة السجن باتت رهان فلسفي. فالفكرة المعلنة التي كمنت وراء بناء السجون يحددها فوكو في أن زنزاناتها وجدرانها العالية وأقفالها المحكمة وحرّاسها الذين يرصدون كل كلمة وحركة إنما كانت بمثابة "إصلاحيات" للتربية الاجتماعية.
ختاماً هل من نهاية لعذابات اللبنانيين وللسجن الكبير الذي يقبعون فيه دون مال ودون محاكمة ودون سبيل للخروج جواً او بحراً او براً بانتظار عدالة من مؤسسة دولية أو بنك دولي أو أية مؤسسة إقراض؟
نستشهد بما كتبه الشاعر الفرنسي بول إيلوار: «لا يوجد خلاص على الأرض ما دمنا نستطيع الصفح عن الجلادين».