ان ما نشهده من صراع سياسي بين اركان السلطة التي تعاقبت على الحكم لمدة ثلاثين سنة يعود الى الواجهة مجددا مع بروز "معارضة" بوجه حكومة د. حسان دياب على ضوء الاجراءات المالية المتخذة من والمتمثلة باقتراح اقتطاع نسبة من اموال كبار المودعين واقتراح حذف رأس مال المصارف وتعيين نواب حاكم مصرف لبنان، ما ينتج عنه ضررا كبيرا ومباشرا بمصالح هذه الطبقة السياسية. فإذا بالتظاهرات تعود الى الشارع بالتزامن مع عودة الحريري، موجهة سهامها الى حكومة دياب محملة اياها اوزار تركة الزمرة السياسية المتعاقبة على تدمير ونهب البلد وتجويع المواطن ومهددة بإعادة تجربة العام ١٩٩٢... لكن هذه المرة سقطت الاقنعة.
فعندما رفعت ثورة ١٧ تشرين منذ انطلاقتها شعارات مطلبية تتمثّل بتأمين فرص العمل والكهرباء والماء والخدمات الاستشفائية والتعليمية وسلسلة من المطالب التي هي حقّ من حقوق المواطن، كانت تعلم أن هذه الحقوق لا تتأمّن في ظل غياب سلطة شفّافة فاعلة يهمّها مصلحة الناس.
من هنا كان مطلب الثورة بإجراء انتخابات نيابية مبكرة نابعا من القناعة والتجربة التي تكرست على مدى ثلاثين سنة من حكم الطبقة السياسية الحاكمة بأن اي اصلاح لا يتمّ دون وجود مجلس نواب منتخب من الشعب ويعبّر عن إرادته ويكون شغله الشاغل مراقبة عمل السلطة التنفيذية وسنّ القوانين التي تكافح الفساد. وان ذلك لن يكون الا بإجراء انتخابات نيابية مبكرة تجدد الثقة بالفريق الحاكم لفقدان الثقة بالمنظومة القائمة التي تمنع المحاسبة ومحاكمة الفاسدين.
وان ما حصل منذ أيام في الجلسة التشريعية لمجلس النواب حيث تواطأ اركان السلطة مجددا وعملوا بالتكافل والتضامن وبتوزيع للأدوار للإطاحة بمكافحة الفساد واسترداد الاموال المنهوبة، لهو تكريس اخر لدور هذا المجلس الاوحد بتأمين غطاء من الحماية لمرتكبين يدفع ثمنه الشعب وحده، ولهو دليل واضح على ان من يعرقل تحقيق اهداف ثورة ١٧ تشرين هي منظومة الفساد التي حكمت البلد وأوصلته الى الانهيار.
كما أنّ المؤامرة على الرئيس عمر كرامي تتكرّر مع حكومة دياب، وهو الذي يحاول وضمن الامكانيات المتاحة برغم الظروف الصعبة، التغريد خارج سرب القوى السياسية متخذا من اهداف ثورة ١٧ تشرين بوصلته.
لأول مرّة منذ عام 1993، يصبح الحديث عن إقالة سلامة موضع نقاش جدي. لا بل يمكن القول إن الأمر تعدّى ذلك إلى البحث عن سيناريوهات كاملة للإقالة وما بعدها، مع الادراك ان المساحة بين الرغبة والقدرة كبيرة. فيسعى رئيس الحكومة عدم خوض معركة غير مضمونة النتائج مع سلامة قد تعود بمفعول رجعي فتقوّيه بدلاً من أن تؤدي إلى إقالته، لذا يعمل على ترتيب الأرضية، سياسياً وقانونياً، قبل اتخاذ اي قرار من هذا النوع ستكون له نتائج وتأثيرات.
هذا المشهد ينبغي قراءته واقعيا وفي سياقه لدى تقييم عمل الحكومة الحالية الذي لم يتجاوز عمرها الشهرين وفي ظل ازمة وباء اجتاح العالم وعجزت عن التعامل معه كبرى الدول، نجحت هذه الحكومة بالتعامل معه والحد من انتشاره ضمن امكانيات خجولة.
وما تضمنه تصريح رئيس الحكومة الحالية البارحة من خطوتين ايجابيتين وهما:
١- تعيين شركة التدقيق بحسابات المصرف المركزي.
٢- اقرار قانون لاسترجاع الأموال المحولة منذ ١٧ تشرين
ينبغي قراءته بواقعية حيث بات جليا الصراع بين حكومة حسان دياب ونظام المحاصصة الطائفية ما يشكل فرصة ينبغي للثورة الاستفادة منها بتشكيل بديل جبهوي وطني مقابل صراعات الزعامات الطائفية و صراع الحكومة مع حاكم المصرف، مهمته مراقبة عمل الحكومة ومتابعة تنفيذ الاجراءات التي ستقوم بها والتأكد من تطبيقها لمعيار الشفافية في سعيها لتبيان حقائق الوضع المالي لمصرف لبنان والمطالبة بكشف اسماء السياسيين والمصرفيين من اصحاب التحويلات المالية الكبيرة، ليبنى على الشيء مقتضاه.
ان الثورة هي عقل وذكاء سياسي وقراءة واقعية وليس شعارات ووعود حالمة لا تقترن بخطة وخارطة طريق وتأخذ بعين الاعتبار الظروف والاوضاع المحيطة كي لا تتوالى الاخفاقات وتتكرر الاخطاء وتضيع الفرص.