من ينقذ لبنان من مشروع قانون العفو العام؟
خروج آلاف المجرمين بدل دخول الناهبين!

Post
شارك

من الواضح أنّ مشروع قانون العفو المطروح أمام الهيئة العامة لمجلس النوّاب نهار الخميس الواقع في ٢٨ أيار ٢٠٢٠، هو تسوية بين أفرقاء السلطة. لكن غاب عن بالهم أنّ هذه التسوية تأتي على حساب ما تبقى من وطن وأمل بدولة "قانون ومؤسسات"، وقد جرى تطريزه على قياس من يستفيدون منه بطريقة عشوائيّة واستنسابيّة، وهم أنفسهم الأصوات الانتخابية التي تراهن عليها هذه الأحزاب لإعادة ترميم بعض ما فقدته بعد 17 تشرين الأول. الأخطر هو أنّ المواطنين الغارقين بالقلق على صحتهم وودائعهم وعملتهم واقتصادهم ومستقبلهم ليسوا على علم بما يحاك لهم وما يعرّض حياتهم لخطر أكبر سيفتك بما تبقى من أمل بالتغيير ويعيدنا إلى زمن أسوأ مما نحن عليه. وهنا نتساءل، هل يجوز في ظلّ الوضع الاقتصادي البائس الذي ينذر بثورة جياع عنيفة إخراج المتهمين أو المحكومين في الجرائم الخطيرة التي تهدّد أمن وسلامة واستقرار المواطنين اللبنانيين؟ وهل نضاعف ونزيد الخطر على الشعب اللبناني من خلال عدم الاستقرار آلاف المرات في هذا التوقيت بالذات؟ وهل المحاسبة التي يطالب بها الشعب اللبناني تتجسد بإخراج آلاف المجرمين من السجون عوضاً عن إدخال من نهب الوطن وأفسد في الأرض؟

وفي هذا الإطار، نرى أنّه من واجبنا الإضاءة على أهم ما تضمنّه هذا المشروع الذي كان يفترض أن يكون الاستثناء، فتراه جاء بصيغة المبدأ، وذلك كي يتمكّن الشعب اللبناني من معرفة مخاطر هذا المشروع على أمنه وسلامته واستقراره. وهنا، لا بدّ من الإشارة أولاً إلى أنّ "الحق العام" المشار إليه في المشروع هو الحق الذي يعود حصراً للدولة وللشعب اللبناني، وبالتالي من المرفوض المساومة عليه أو التنازل عنه من قبل أيّ مجلس، بما فيه مجلس النواب الحالي الذي لم يعد يمثّل كامل الشعب اللبناني بعد 17 تشرين الأول، فكيف الحال إذا كان هذا العفو يطال الجرائم التي تنال من هيبة الدولة ومن سلطتها وتتعرّض لمؤسساتها الرسمية وتشكّل خطراً محدقاً على سلامة واستقرار المواطنين في هذه الظروف بالذات.

إنّ مشروع قانون العفو يشمل جميع الجنح المنصوص عليها في قانون العقوبات، سواء تلك التي حرّكت فيها دعوى الحق العام أو لم تحرّك، أو التي صدرت بنتيجتها أحكام أو ما زالت عالقة لدى المحاكم، فيما عدا تلك المستثناة صراحةً في المشروع أو تلك التي تلحق بالغير أيّ إيذاء جسديّ أو أي ضرر مادي في أمواله المنقولة وغير المنقولة ما لم يستحصل المستفيد من العفو على إسقاط حق شخصي. والجدير بالملاحظة، إلى أنّه لم يذكر الضرر المعنوي، وبالتالي فإنّ جميع جرائم الافتراء والقدح والذم، بما فيها جريمة تحقير أو قدح وذم قاض معفاة من الجرم وذلك بالرغم من عدم إسقاط الحق الشخصي فيها.

وهنا، من المهم معرفة ما هي الجنح المعفاة بموجب هذا المشروع بشكل عام كون الاستثناء غير مهم بقدر ما هو معرفة الجرائم التي تستفيد من هذا العفو وهي مقسّمة على قاعدة 6 و6 مكرّر: 1- الجنح، 2- الجنايات، 3- المخدرات، 4- الجرائم التي تستهدف إثارة الحرب الأهليّة او الاقتتال الطائفي، 5– عائلات المواطنين اللبنانيين الذين لجأوا إلى إسرائيل. وكان من الأجدى تحديد المواد التي تستفيد من العفو بشكل واضح وصريح وشفاف وغير قابل للتأويل.

1- الجنح التي تستفيد بشكل عام من قانون العفو هي:

الجرائم الواقعة على السلامة العامة كحمل الأسلحة والذخائر والتعدي على الحقوق والواجبات المدنية التي تتناول على سبيل المثال إفساد نتيجة الانتخاب واستخدام السلطة في الإقتراع وتغيير نتيجة الانتخاب بالغش، وجرائم التعدي على حرية العمل وتظاهرات الشغب، والجرائم الواقعة على السلطة العامة والتي تشمل التمرّد وأعمال الشدة، وانتحال الصفات والوظائف العسكرية أو المدنية، ومزاولة مهنة دون حق، والجرائم المخلة بالإدارة القضائية وسير القضاء.

وفي هذا الإطار، ينبغي الإشارة إلى أنّ المشروع قد أعفى أيضاً أولئك الذين اختلقوا الجرائم والأدلة التي كانت سبباً في مباشرة تحقيق قضائي وهم على علم بأنّ الجريمة لم تقترف أو يعرفون ببراءة أحد الناس منها.

كما شمل العفو جرائم الافتراء والتحريض على أداء شهادة الزور والتقارير الكاذبة، وجرائم إخفاء وإتلاف وتشويه الوثائق المبرزة للقضاء وجرائم استعطاف القاضي والجرائم التي تعترض نفاذ القرارات القضائية وتمسّ قوتها. من ناحية أخرى، يشمل العفو الجنح التي تمسّ الدين وجنح تحقير الشعائر الدينية وزواج القاصر وسفاح القربى وخطف القاصر ومخالفة الأب والأم لأمر القاضي بإحضار القاصر وجريمة رفض تنفيذ موجب الإعالة.

يشمل العفو أيضاً جرائم إيذاء الأشخاص بما فيها الإيذاء القصدي أو غير القصدي وجرائم خرق حرمة المنزل والتهديد وإفشاء الأسرار وجرائم الذم بواسطة وسائل النشر والقدح المتبادل، وجرائم حريق أو محاولة حريق شيء يملكه الغير، والجرائم الواقعة على سلامة طرق النقل والمواصلات والأعمال الصناعيّة.

أما بالنسبة للجرائم التي تقع على الأموال، فقد شمل العفو، في إطار الجنح، جرائم أخذ مال الغير والسرقة وجرائم ما جرى مجرى الاحتيال والمراباة والقروض لقاء رهن والشيك بدون مقابل. وشمل مشروع العفو جميع جرائم إساءة الائتمان باستثناء من يقدمون على إساءة الأمانة ويكونون مستنابين من السلطة لإدارة أموال تخص الدولة أو الأفراد أو لحراستها.

كما شمل مشروع العفو جرائم الغش في المعاملات بما فيها العيارات والمكاييل غير القانونية والمغشوشة والغش في كميّة البضاعة والمضاربات غير المشروعة والتقليد وجرائم إقلاق الراحة العامة وتشويه صورة اللبنانيين بواسطة نقوش وصور ورسوم، وجرائم إساءة معاملة الحيوانات الداجنة.

2- أما بالنسبة للجنايات المنصوص عليها في قانون العقوبات، فلم يشملها العفو باستثناء تلك المحدّدة صراحةً في المشروع والتي من الواضح والفاضح أنها قد صمّمت خصيصاً لإفادة بعض الملفات المحدّدة من العفو العام على أن تقترن بالإسقاط الشخصي في الحالات التي تطال فيها أشخاص. أهمّ الجنايات هي:

أ‌- جمعيّات الأشرار وهي تلك التي تُنشأ بقصد ارتكاب الجنايات على الناس أو الأموال أو النيل من سلطة الدولة أو هيبتها أو التعرّض لمؤسساتها المدنية أو العسكرية أو المالية أو الاقتصادية.

ب‌- العصابات المسلحة التي تسري في الطرق العامة والأرياف بقصد سلب المارّة والتعدي على الأشخاص أو الأموال أو ارتكاب أعمال اللصوصيّة وتلك التي تقترف هذه الأفعال.

ت‌- اختلاق الجرائم والافتراء في المواضيع الجنائية.

ث‌- القتل أو الإيذاء أثناء مشاجرة اشترك فيها جماعة ولم يتمكن معرفة الفاعل بالذات.

ج‌- محاولة القتل القصدي والتي هي من الجرائم الخطيرة بحيث أنّ المجرم قد تقصّد القتل، بما فيها إن كان على أحد أصوله أو على حدث دون الخامسة عشرة من عمره أو على موظف أثناء ممارسته وظيفته أو على إنسان بسبب انتمائه الطائفي أو ثأراً منه أو لسبب سافل أو للحصول على منفعة، ولم يتمكّن من تنفيذ جريمته القصدية لظروف خارجة عن إرادته. فهل يُعقل أن يستفيد "العقل المجرم" من العفو العام؟

ح‌- جناية السرقة إذا وقعت على دراجة نارية.

3- بالنسبة لجرائم المخدرات، فإنّ المشروع المطروح، ومن باب التوافق مع قانون تشريع زراعة القنّب، قد أعفى عن جرائم حظر زراعة النباتات المخدّرة أو الخطرة عن قصد الإتجار بها واستثنى تصديرها واستيرادها وكان الأجدر هنا تعديل هذه المواد عوضاً عن الإعفاء عنها كون هذه الزراعة أصبحت مباحة. كما شمل العفو كل من سهَّل للغير استعمال المواد المخدرة، وكل من استحصل على العقاقير المخدّرة عن طريق وصفات طبية وهميّة، وكل من اشترى كميّة ضئيلة بقصد التعاطي والاستهلاك الشخصي، وكل من تعدّى على الموظفين العمومين القائمين على تنفيذ قانون المخدرات أو قاومهم بالعنف والقوة. ومن غير الواضح ما إذا كان القانون يشمل جريمة الإتجار بالنباتات المخدّرة إذ أنّه أشار أنّ العفو يطال الفقرة الأولى من المادة 125 مخدرات التي بدورها تشير الى المادتين 11 و13 ولكنه عطفها على المادة 11 حصرا" دون المادة 13 التي تتعلّق بالاتجار.

4- ولعلّ أخطر ما في مشروع قانون العفو هو ما شمله من جرائم الفتنة أي الاعتداء أو محاولة الاعتداء التي تستهدف إثارة الحرب الأهليّة او الاقتتال الطائفي بالتسليح أو بالحض على التقتيل أو النهب أو التخريب، كما يشمل كل عمل إرهابي إذا قضى إلى موت إنسان، إلّا أنّه:

من ناحية أولى، استثنى قتل مدنيين و/أو عسكريين عمداً أو قصداً أو حرمان حريّتهم أو التسبّب بعاهة دائمة لهم. ويُفهم من ذلك أنّ القتل غير العمدي أو غير القصدي لعسكريين ومدنيين معفى من الجريمة أو التسبب لهم بعاهة غير دائمة أو بجرحهم معفى أيضاً!

من ناحية ثانية، استثنى المشروع من العفو كلّ مَن صنع أو اقتنى أو حاز أو نقل مواد متفجرة أو محرقة، وبالتالي نستنتج أنّ من حمل سلاحاً يستفيد من العفو ولو كان فعل سلاحه أخطر من المواد المتفجرة.

ومن ناحية ثالثة، استثنى المشروع من العفو فقط من ترأس عصابة مسلحة أو تولّى فيها وظيفة قياديّة للقيام بأعمال إرهابية، فهل يكون بالتالي كل من انضمّ الى العصابة الإرهابيّة أو انتسب إليها دون تولي القيادة فيها مستفيداً من العفو في ظلّ وجود مواد تتعلّق بالإرهاب لم يشملها مشروع القانون بالعفو؟

والأهم من ذلك هو أنّ العفو في هذا المجال الخطير لم يشترط الاستحصال على إسقاط حق شخصي في حال وجود دعوى حق شخصي تبعاً لدعوى الحق العام كونه من الجرائم التي تنظر فيها المحاكم العسكرية إذ شمل المشروع جميع الجنح المنصوص عنها في القضاء العسكري دون اشتراط إسقاط الحق الشخصي. فهل يجوز أن ترتبط الجنح بالإسقاط الشخصي في حين أن الجنايات الخطيرة لا تشترطه؟

5- وفيما يتعلّق بالعفو الذي يتناول المواطنين اللبنانيين الذين لم ينضووا عسكرياً وأمنياً وفرّوا إلى الأراضي المحتلّة، وبغضّ النظر عن مدى ملائمة ضمّ آليّة التطبيق في صلب القانون، فإنّ أخطر ما جاء فيه هو الاعتراف بأوراق رسمية صادرة عن بلاد العدو والاستناد إليها في آلية تطبيق العودة والعفو.

من الملاحظات الإضافية التي ينبغي الإشارة إليها هي أنّ مشروع القانون قد أشار في أسبابه الموجبة إلى أنّ العفو لا يشمل جرائم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في حين أنّ نص القانون لم يشمله ضمن الاستثناءات، كما لم يشمل قانون الإجراءات الضريبية وقانون حماية كاشفي الفساد وإلى ما ذلك من القوانين الأساسية. وكان من الأجدى عدم ذكر القوانين المستثناة إذ أنّه، من ناحية، من الواضح أنّ مشروع العفو يتناول فقط الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات اللبناني، ومن ناحية ثانية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى الاستنتاج الخاطىء أنّ العفو ينطبق على كلّ القوانين الأخرى التي لم تذكر صراحة في الاستثناءات.

إنّ قانون العفو العام عادةً ما تبرّره ظروف اجتماعيّة أو قانونيّة أو سياسيّة تحتم نزع الصفة الجرميّة عن بعض الجرائم بغية حذفها من ذاكرة الناس واستئناف الحياة في مرحلة جديدة لا تعكرها ذكريات تلك الظروف، ولكن بالتدقيق في بنود مشروع هذا القانون، يتبيّن بأنّه بعيد كلّ البعد عن هذه الأهداف خاصةً وأنّه، بالشكل المطروح فيه ونوعيّة الجرائم التي يغطّيها، لا يمكن أن يؤسس للصفح المرجو منه ولا للتلاحم الاجتماعي، بل سيشجّع على الجريمة وعلى الإفلات من العقوبة خاصةً في ظلّ هذه الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصعبة. هذا فضلاً عن أنّه يمسّ بهيبة القضاء ويهدد سيادة مبادئ العدالة والعدل والإنصاف، ناهيك عن أنّه يضع لبنان بوجه المجتمع الدولي ويحمّله مسؤولية القبول بالإعفاء عن جرائم تطال حقوق الإنسان. فهل من يرحم هذا الوطن؟

*محامية

شارك