سؤال إلى حاكم مصرف "سويسرا الشرق" في طريقه إلى الغربية

Post
شارك

بعد سويسرا... حتى لو عاد الحاكم منها رياض سلامة "صاغ سليم" منقذاً الـ ٤٠٠ مليون دولار على ذمة بعض الاعلام، ليس كما قبلها.

ان المعلومات الأولية التي صرحت بها وزيرة العدل اللبنانية ماري كلود نجم لوكالة رويترز مفادها أن لبنان تسلم رسالة رسمية من السلطات القضائية السويسرية، تطلب فيها تعاون القضاء اللبناني بخصوص تحويلات مالية تخص سلامة. وان السلطات السويسرية قامت بتجميد الأصول العائدة للحاكم سلامة وشقيقه رجا ومساعدته ماريان الحويك، بسبب تحويلات مالية أقدموا عليها تتناقض مع القوانين المصرفية السويسرية.

الحاكم الملاحق أصلاً بلعنة بعض الاعلام الرصين وبلعنة الاعلام الاجتماعي "غير الرصين" وبلعنة فقراء الشوارع الحزينة وبعض الذين يعرفون نموذج حكام سبقوه كإدمون نعيم والياس سركيس، يوم كان للرصانة والأمانة جمهور أكبر، وبلعنة العاطلين عن العمل، والعمال الذين ذابت رواتبهم، والمغتربين والمودعين الذين استدرجوا الى مصيدة الوديعة اللبنانية التي نهبت عقوداً من تعبهم وتحصيلهم... هذا الحاكم اذا ثبت انه اخرج ثروته من بلد مفلس، يعني انه سرق من ودائع الناس مباشرة.

كل تواريخ الفساد المتعلقة بحكام المصارف المركزية، لم تكن يوماً على هذا النحو او بهذه الاحجام باستثناء واحد وهي فضيحة روسية في عهد يلتسين في التسعينيات، عندما اتهم المدعي العام الروسي يوري شوراتوف الحاكم سيرغي دوبينين باستفادات ضخمة من خلال تحويلات أدعي انها لصالح الدولة الروسية الى حسابات خارجية "اوف شور" تحت اسم شركة "فيماكو"... وعند الاطلاع على بعض القضايا الحاصلة في اندونيسيا او اليابان او البرازيل وحتى فرنسا ومنها قضية الحاكم جان كلود تريشيه الذي اتهم بضلوعه بالتغطية على مصرف "كريديه ليونيه" والتلاعب الدفتري بأرقام الكثير من القروض المتعثرة في الثمانينيات، وهو مصرف كان ملكاً للدولة الفرنسية آنذاك، غير انه برئ من التهم وترأس المصرف المركزي الأوروبي بين ٢٠٠٣ و٢٠١١، لا يبدو لنا المشهد اللبناني استثناءً. الا ان الغوص قليلاً في مسارات هذه القضايا وغيرها التي لم تصل كلها الى خواتيم الادانة، تكشف عن استثناءات مهولة في حالة الحاكم اللبنانية في خمسة مواقع: احتمال حجم الاستفادة الخاصة، حجم التغطية السياسية التي حظي بها برغم انهيار الوضع المالي، حجم التواطؤ المصرفي معه، حجم انعدام الآليات الداخلية للمساءلة والمحاسبة وغياب القضاء الفعال، وحجم القبول الشعبي بالفساد... كلها استثناءات شبه غير مسبوقة!

لا القضاء اللبناني تحرك بعد ١٧ تشرين ولا استحى شركاء سلامة من تغطيته لا في أدائه العام ولا فيما يتعلق بمساءلته عن ماليته الخاصة. حتى ان غبطته البطريرك الراعي الذي اعتبر محقاً "الطبقة السياسية عدوة لشعبها" اعتبر في نفس الوقت ان حماية الحاكم هي ضرورة للموقع وامتيازاته الطائفية! أما التيارات الطائفية المتأثرة بتيار المستقبل وحركة امل والحزب الاشتراكي وغيرهم، الذين يرددون بيانات المكاتب الإعلامية لزعماء طوائفهم، وكارتل المصارف واكثر وزراء المالية على مدى ثلاثة عقود، وبعض السياسيين والإعلاميين، وبعض نواب الحاكم وموظفي المصرف المركزي وبعض المستشارين وشبكة المصالح المرتبطة... فهؤلاء حراس الهيكل الذين يحاولون تزويد الحاكم بورقة تين رثة، يضيفون الى هذا التركيب المعقد الجامع بين الامتياز الطائفي وتشابك المصالح مناعة للحاكم ضد المحاسبة، اسقطته سويسرا.

أما الأحزاب الأخرى "لما متساكنة" مع هذا الملف الذي يعد من أكبر السرقات في تاريخ الدول، ومنهم التيار الوطني الحر وحزب الله والقوات اللبنانية وبعض المارقين على المواقع السياسية، من نواب ووزراء الصدف، فانهم فئة يمكن وصفها بانها تود ان تقوم بالإصلاح على الدلعونة مع الحفاظ على "التوازن الطائفي" وحبة أسبرين يومياً بعد العشاء، كي يتفادوا أي صداع يسببه بعض رموز المقطع السابق من هذا النص حفاظاً على مكتسباتهم، وكلهم يضيفون انهياراً لما تبقى من مضمون وشكل الدولة!

في ظل هذه المأساة وحجم العقم السياسي والقضائي الداخلي -ولا استثني من هذا العقم حالات ثورة ١٧ أيار، مع ان لها فضل في هذا المسار السويسري- سؤال واحد اود طرحه على "أفضل حاكم" كما يصفه البعض، وهو سؤال سيتغاضى مؤقتاً عن كل الاتهامات التي سيقت بحقه، بما في ذلك المآخذ عليه وعلى مقولته ان كل ما فعله لا يتعارض مع القانون اللبناني، وهو كان قد افاد في احد مؤتمراته الصحفية انه التزم بقرارات السلطة السياسية عند تمويل الميزانيات المتتالية منذ التسعينيات، أي عندما وقف شاهد زور على توسع القطاع العام من خلال التوظيف العشوائي وتمويل الزبائنية السياسية ودعم مصارف شبكة المنافع... كما سيتغاضى هذا السؤال عن سوء تنسيقه مع حكومة حسان دياب وعن عدم افصاحه عن مصدر مليارات الدولارات اللبنانية التي حولت الى الخارج في السنوات الأخيرة، ناهيك عن عدم شفافيته وعن عدم دقة ارقامه وتوصيفه للوضع المالي قبل وبعد الانهيار، وعن الأعراف الأخلاقية التي يجب على أي حاكم مصرفي رصين الالتزام بها...

اذاً السؤال البسيط لرياض سلامة هو: كيف لحاكم المصرف المركزي اللبناني ان يدعو اللبنانيين وغيرهم الى الإيداع في المصارف اللبنانية بفوائد خيالية، بينما يقوم هو بإخراج أمواله واموال محيطه الضخمة من لبنان ويقوم في الوقت نفسه بطمأنة الجميع حول استقرار الوضع المالي! أي نوع من الحكام هذا! هذا الفعل هو شبهة أو ادانة بقدر أي شبهة او إدانة قد تصدر حول تحويلاته او شرعية أمواله واصوله او أي موضوع متصل. سقط رياض سلامة مع سقوط النظام المصرفي اللبناني، لكن بمجرد ملاحقته سويسرياً بات غطاء عدم المساءلة مرفوع عنه، وباتت كل الحصانات اللبنانية تافهة.

سقط الحاكم حتى لو افترضنا انه خرج بنتيجة غير مغلوب من الادعاء السويسري وتقارير الصحافة الاستقصائية الأوروبية واللبنانية والملاحقات القانونية لبعض نخب الجاليات اللبنانية له في عدة بلدان، وحتى ولو سقطت كل مقولات الخبراء اللبنانيين المحترمين وبعض تقارير منظمات رقابية حقوقية غربية عنه وعن ادائه.

سقط رياض سلامة منذ زمن. لكن هذه المحطة السويسرية لا يمكن الإفلات من تداعياتها، لاسيما انها تشكل ركنا اساسياً في قدرة بعض النظم القضائية الدولية على مساعدة اللبنانيين في أية خطوات اصلاحية ان أتيحت. فهل هذه المحطة اتت بالتوافق والتنسيق مع المبادرة الفرنسية، ام انها بمعزل عنها؟ فإذا كانت بمعزل عنها فعلاً، فإنها قد كشفت هشاشة هذه المبادرة لأنها لم تشمل أي إطار لمساءلة المنظومة الطائفية والمصرفية، ان لم نقل لم تشمل ضغطاً فعلياً بالخاص عليها، أي تهديدها بالمحاسبة من خلال كشف تحويلاتها او تجميد أصولها في الخارج، وهذا ما جعل قدرة التركيبة اللبنانية بتعقيداتها على اضعاف المبادرة الفرنسية ان لم نقل اجهاضها ممكنة دون عواقب، وهذا ما نشهده حالياً.

المحاسبة الخاصة في هذا السياق اهم من العامة، لاسيما ان اغلب الكارتل لديه تحويلاته الى الخارج، فاذا لم يستخدم الضغط في المجال الخاص فلن نصل الى أي نتيجة في الإصلاح العام المتعلق بحقوق الناس.

وقع رياض سلامة بين المساءلة الخاصة والعامة.. مساءلة حول ثروته وأمواله وتحويلاته وحول أدائه وأداء مصرف لبنان، وحول علاقته برموز النظام السياسي اللبناني والمصرفي، وحول تطمينه اللبنانيين مع وزير المالية السابق عن متانة الوضع الاقتصادي، بينما كنا في قلب الانهيار البطيء... لذا يجب اقله ان يستقيل.

سقط سلامة بكل الأحوال مع سقوط دولة "لبنان العظيم" و"سويسرا الشرق". لكن ماذا عن الودائع والبقية الباقية من زمر النهب العام باسم الطوائف؟ هل من محاسب هل من نصير؟ بكل الأحوال شكراً سويسرا الغربية، أيها البلد الجميل!

شارك