يبدو ان عملية النهب المصرفية الكبرى يغطيها جزء كبير من المنهوبين! نعم، المعجبون بالاقطاعات الطائفية المستجدة وحلفائها منذ مرحلة الإدارة السورية للملف اللبناني وما بعده، بزعامة بري-الحريري مع البيك القديم، جنبلاط، أضف إليهم المرجعية الطائفية لرياض سلامة، البطريرك الراعي... استشاطوا غضباً في محاولة لنصرة “روبن هودهم" وذلك لمجرد مساءلة الحاكم بأمره رياض سلامة، وهو المسؤول الأول -لا الوحيد طبعاً- عن السياسات المالية ونموذج الاقتراض من المصارف بفوائد خيالية جذبت المودعين كفريسة، لموت مالي لاحق. ناهيك عن مسؤوليته في كتم أسرارا النهب المستمر...
بديهية أن سلامة "ليس الوحيد"، لا تعفيه من المسؤولية إطلاقاً، ولا تعفي قيادات الصف الأول، عرابي التطاول على القطاع العام وجيوب الناس والسلم الأهلي. فستلاحقه شبهات حول مصداقيته وحول أدائه، حتى لو تبرعت بحمايته كل هذه "الدكتاتوريات الصغيرة" التي تعدت ثرواتها مفهوم الثراء "الطبيعي"، من خلال شبكة الأقرباء و الشركاء-الأثرياء الجدد- في قطاعي المصارف والأعمال، أضف إليهم أزلامهم-فقراء الطوائف، محازبي الزعيم، جلاديه وضحاياه.
اذاً، لا يستطيع رياض سلامة، المدير المالي لهذه الطبقة التي استجدت في مرحلة الادارة السورية للسلم الأهلي وما بعدها، وأحد المسؤولين الرئيسيين "للموت" الاقتصادي للمجتمع اللبناني، برغم كل محاولاته ومحاولات شركائه تغطية جرائمهم المالية وسوء ادارتهم وعدم شفافيتهم، ان يتهرب من أحد الأسئلة الرئيسية والبسيطة التي تغاضى عنها في مؤتمره الصحفي الطويل وغير الموفق، وهو: من هم أصحاب الأموال المهربة من البلد قبل وبعد ١٧ تشرين، والى أين هرّبت هذه الأموال، وما هي الأرقام؟ هذه العمليات الخاطفة، للعصابة المصرفية اللبنانية شكلت إحدى آخر السرقات المباشرة -شبه العلنية- لأموال المودعين من كل مستويات الدخل.
في لبنان، خلال وبعد الحرب الأهلية، لم يعد عجباً ان يصبح المنهوب مدافعاً عن الناهب، بعد التحولات الاجتماعية والثقافية الكبرى وتدجين الجمهور بما في ذلك أجيال ما بعد الحرب، والاستيلاء على مالهم وأثيرهم، واحتكار تمثيلهم السياسي وتجيير سيادتهم. فبات اغلب "وجهاء" الحرب الأهلية وما بعدها، بما في ذلك قتلتها الطائفيين بتحالفهم مع رجال الاعمال والمصرفيين، أسياد مرحلة السلم الأهلي، بغطاء أمني وسياسي إقليمي ودولي...
انتهت مرحلة السلم الأهلي، ودخلنا مرحلة النزاعات الأهلية بعد خروج الجيش السوري من لبنان واغتيال الرئيس رفيق الحريري. في هذه المرحلة امعنت القوى الرئيسية المنتفعة من نظام المحاصصة السابق في التخاصم السياسي والتقاتل احياناً، لكنها حيّدت تحالفاتها المالية، ما يفسر الكثير من التفاهمات المحبطة لجمهورها، لاسيما تلك المنعكسة في القوانين الانتخابية قبل كل محطة انتاج مجلس نيابي جديد. استمرت هذه المرحلة الى ان استطاعت القوى السياسية تشكيل تفاهمات لتحييد اللعبة عن التوترات الإقليمية، فتوقفت احداث باب التبانة-جبل محسن ودخل الجيش اللبناني. بعدها دخلنا مرحلة التفاهم الأهلي.
منذ ١٧ تشرين ٢٠١٩، نحن في مرحلة الانهيار الأهلي. في إدارة الانهيار يبدو حراك الرئيس حسان دياب مرتبكاً، وكأنه تراجع عن هجومه الأول. مؤخراً كان هناك بعض الإيجابيات في خطة حكومته الاقتصادية، إلا أن هناك مؤشرات على ان ما يحصل في موضوع المحاسبة المالية قد يؤول شبيهاً بما حصل عندما مررت الطبقة السياسية المستجدة في أوائل سنة ١٩٩١ قانون العفو رقم ٨٤/٩١ عن الجرائم السياسية، معفية نفسها من المحاسبة (١). ولم يكن "قانون العفو عن الأقوياء" حصانة قضائية لهم هددت مفاهيم السلم الأهلي فحسب، بل تعدتها لتكون مقدمة لحصانات أخرى، إعلامية وسياسية لتغطية التعديات على القطاع العام من خلال التوظيف ووضع اليد على الأملاك العامة والمشاعات والاستفادة من المناقصات، كما حصل لاحقاً في قانون الاعلام الإذاعي والبثي (أي المرئي والمسموع) رقم ٣٨٢/٩٤ عندما أعطت الحكومة -أي رئيسها- صلاحيات منح التراخيص اعتباطياً وتقاسمت مع مجلس النواب -أي رئيسه- تعيين الهيئة الوطنية للإعلام (٢).
التجربة الحالية تضع مصداقية دياب على المحك ان لم يحاول اكمال ملفاته وفتحتها علناً، واهمها:
أولاً، متابعة مساءلة رياض سلامة ومافيا المصارف بشكل جدي، بعد ان انتهى الموضوع باتهامات متبادلة وبعد أدائه المعيب وتغيبه عن الاجتماع مع وفد صندوق النقد الدولي، واصطدام فريقه في هذا الاجتماع بفريق وزارة المال.
ثانياً، إعادة هيكلة القضاء للمحاسبة الفعلية بما في ذلك تغيير قضاة "التركيبة" او تحييدهم، بعد ان تم تعطيل التعيينات الجديدة، ويبدو ان الرئيس دياب قبل بالتساكن مع هذا الوضع أيضاً!
ثالثاً، الحد من التعدي على الدولة من خلال وقف التوظيف العشوائي والتهريب عبر المعابر واستعادة الأملاك العامة.
نعم، الرئيس دياب وحده أمام المقصلة، لا العهد. لان المشروع الإصلاحي للعهد منتهي منذ بداياته، لأنه دخل إدارة الدولة بذهنية "إعادة التوازن" و"التمثيل المسيحي" مما أفقده مشروعه الإصلاحي. ناهيك عن الكثير من الأسئلة حول إدارة الملفات، والعائلة الحاكمة. كما ان تحالف العهد مع حزب الله، وهو الطرف القوي في المعادلة، ظل خاضعاً لاعتبارات "الثنائية الشيعية"، مما "حيّد" الحزب عن ملفات الإصلاح وعطل ويعطل إمكانيات تأمين الغطاء السياسي لفتح بعض الملفات المتعلقة بالحلفاء عموماً.
الرئيس دياب الذي اعطى إشارات إصلاحية إيجابية بداية، هو مكشوف الآن امام خيارات قد تكون كلها "مميتة" سياسياً، لأنه لم يدخل موقعه مع حصانته الطائفية! لكن لهذه المخاطرة "بمعايير النظام الطائفي اللبناني" إيجابيات أيضاً، يمكن استغلالها في تكوين حالة جديدة متكئة على التغيرات منذ ثورة ١٧ تشرين، إذا كان دياب على قدر المسؤولية، وإذا كان قادراً على مواجهة وزراء الزعامات والأحزاب داخل حكومته أولاً، وعدم المماطلة لان المهل الإصلاحية لها صلاحية زمنية بدأت بالنفاذ.
أما الخيارات الثلاثة التي تهدد دياب فهي، إما اكمال الاشتباك في ملف الإصلاح ومكافحة الفساد كما جاء في البيان الوزاري حتى الرمق الأخير بمواجهة كل المعرقلين دون استثناء من خلال اكمال النقاط الثلاث السابقة الذكر، إما مصارحة اللبنانيين المنهوبين-"القتلى"، ثم الاستقالة، وإما التساكن مع اللعبة الوسخة.
في ظل هذه الإشارات المقلقة في أداء دياب وحكومته، وفي ظل الاعتراض التصاعدي على السلطة منذ الثورة... أمام رئيس الحكومة الجديد فرصة لتجنب خيار "الموت" الثالث أي التساكن مع اللعبة، كي نبقي حسن الظن ولا نقول دخولها. فأنبل وأفضل الخيارات هو الانضمام الى صفوف "القتلى" واكمال المعركة الإصلاحية، لأنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذ نفسه وإنقاذ البلد. وإلا فليصارح ويستقيل أو "فليمت" واقفاً!
(١) موقع مركز الابحاث والدراسات في المعلوماتية القانونية في الجامعة اللبنانية. للمزيد يمكن المتابعة على الرابط التالي: https://bit.ly/2WI1fbX
(٢) يمكن مراجعة كتاب التكوين التاريخي لنظام لبنان السياسي الطائفي: لبنان السلطة ولبنان الشعب لكاتبه أميل شاهين الصادر عن دار الفارابي. للرابط الإلكتروني: https://bit.ly/2WEYKH8