فرضيات حول سرعة التاريخ والإنسان الجديد

Post
شارك

مع استمرار تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، تدور في أروقة مراكز الأبحاث حول العالم نقاشات، وتبنى نظريات حول التداعيات السياسية الإقتصادية والإجتماعية والتعليمية والتقنية للجائحة، وحول مستقبل المشهد بعد انتهاء الوباء والتغيرات المصاحبة له لاسيما الآثار السلبية والتكاليف الباهظة على كافة قطاعات الأعمال وكبريات الشركات في أنحاء العالم.

مما لا شك فيه أن هذا الوباء المفاجئ سيتسبب في تغيّر جوهري وثوري في النموذج المعياري Paradigm Shift السائد على مستوى المجتمع (أو العالم طبعاً)، وعلى نموذج عولمة الديمقراطية الليبرالية بقِيَمها حول الحرية، الفردية، المساواة، كصيغةٍ نهائيةٍ للبشرية. فالقيم التي تغنى بها الفيلسوف الأميركي فرانسيس فوكوياما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي في صيف 1989، من خلال المقالة التي نشَرتها مجلة ناشيونال إنترست وقتها بعنوان "نهاية التاريخ" انتهت مسحوقة تحت أقدام وباء كوفيد-19 المستجد.

لقد بات معروفاً على مدى التاريخ أن الحروب والأزمات الإقتصادية والإجتماعية الكبرى تشكل حجر الزاوية لنشوء نظام عالمي جديد، باعتبارها لحظات مفصلية، تفرض تغيراً راديكالياً على الخارطة السياسية، الاجتماعية والاقتصادية.

لقد دمر الفيروس مفاهيم العولمة وإنسان ما بعد الحداثة وما بعد الإنسانية، محيلاً التبادل التجاري الحر وسهولة التنقل وسرعته، إلى عوامل مساعدة على انتشاره لا حصره، حيث اصبحت القرية الكونية مهددة بعدو مجهري غير مرئي، قادر على الانتقال عبر القارات في غضون ساعات، مستغلاً السيارات والطائرات والبواخر وكل ما يتحرك.

بات مأزق نظام العولمة اليوم عميقاً، حيث أن أهم ضحايا ضرورات احتواء المرض والتخفيف من آثاره هي حرية التجارة وركائز الربط والتدفق والاختلاط. وباتت خارطة الأقطار المتنوعة، والكيانات المنفصلة عن بعضها البعض، بحدود سياسية وجغرافية تحتاج للإغلاق، وإيقاف الحركة والتبادل فيما بينها. هذا بالإضافة إلى زحف فيروس قديم ليكمل انجازات كوفيد -19، وفي حال لم يتم احتوائه فإن العالم بأسره سيتحول إلى كيانات فقيرة ولا قيمة لها.

انه فيروس الشعبوية، سيدمر الاتحاد الأوروبي ليصبح عبارة عن دول شبه مستقلة، لكنها في الحقيقة كيانات تابعةVassal states تحت رحمة روسيا والولايات المتحدة، كما أن الصين ستسغل المخاوف الناجمة عن تفشي فيروس كورونا، لنسف الديمقراطيات ومكافحة الهجرة وعرقلة الانتخابات.

في كتابه الشّهير "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" لم يلحظ العالم السياسي الأميركي صاموئيل هنتنجتون أن الصدام بين مختلف الحضارات والايديولوجيات من جهة وكائنات مجهرية وجائحات وأوبئة مدعومة بعوامل التغيّر المناخيّ من جهة أخرى، سيعيد صياغة المشهد الجيو-سياسي العالمي في معركة ستخاض وفق متغيّرات ينتصر فيها أسياد العلم والتكنولوجيا الذين سيحاولون إعادة السيطرة على قوى الطبيعة عن طريق أنظمة إنذار مبكر لمراقبة أوبئة في المستقبل باستخدام تقنية إنترنت الأشياء والبيانات الضخمة ونظام تحديد المواقع العالمي لتتبع مكان الأشخاص المصابين أو المعرضين للإصابة، وفق أساليب ستطيح بالحريات الشخصية وتفرض نظاماً عالمياً جديداً ذو طابع شمولي مبني على العزلة والحجر الصحي تتقوقع فيه الكيانات والدول كما الأشخاص.

الفيلسوف الماركسي السلوفيني سلافوي جيجك كانت له رؤية مميزة للأبعاد الإيديولوجية لقضية انتشار فيروس كورونا ورمزيته فلسفياً وإيديولوجياً، وكيفية محاربة الفيروس في وقت يتكاثر فيه كشكل غير مرئي من الحياة الطفيلية التي تظل آليتها الدقيقة غير معروفة. فقد أشار إلى أن العزلة والجدران الجديدة ومواقع الحجر الصحي لن تقف أمام اجتياح كوفيد-19، انما ما يمكننا من مواجهته هو التضامن الكامل غير المشروط والاستجابة المنسقة العالمية العالمي. في وقت أكد الفيلسوف الأمريكي يوفال نوح هراري أن في الحرب ضد الفيروس، على الإنسانية أن تحرس الحدود، لكن ليس الحدود الفاصلة بين الدول، بل الحدود الفاصلة بين العالم الإنساني والعالم الجرثومي.

مما لا شك فيه أن تفشي كورونا سيمثل بداية لتغيير جذري يشبه إلى حد كبير التحول الاجتماعي الذي تلا الحربين العالميتين بسبب الغضب المتنامي من انعدام المساواة، حيث قد يحفز تفشي الفيروس بشكل كبير التحولات الاجتماعية والاقتصادية السريعة، وهذا ما أشار إليه الدبلوماسي الأمريكي ريتشارد هاس في مقالة نشرت في مجلة "فورين أفيرز" حيث قال أننا نمر في أزمة عظيمة بكل المقاييس ولذلك من الطبيعي أن نفترض أنها ستشكل نقطة تحول في التاريخ المعاصر.

اخيراً، هناك نظرة متفائلة أمام هذه المشهد الأبوكاليبسي Apocalyptic تتمثل في بروز ظاهرة "التحرر" من ضغوط العمل والنشاط المكثف والتفكير، لإعادة إنتاج تجارب إنسانية وفكرية جديدة بفضل أوقات الفراغ الكورونية ومجالات التأمل في حال الكوكب والمجرة!

شارك