إذا كان الوجه الرئيسي للصراع الدولي بعد كورونا متجهاً نحو المواجهة بين أميركا والصين، فهل سيأخذ الشكل الذي هو عليه الآن في زمن كورونا، أو ما كان عليه قبلها؟ أي مواجهة أمريكية- صينية كأنها مواجهة بين ملاكمين على حلبة، فيما الدول الكبرى الأخرى في موقع المشجع أو المحايد أو المؤيد، بصورة غير مباشرة، وفيما الصراعات الإقليمية لا سيما في منطقتنا العربية-الإيرانية-التركية لا علاقة لها مباشرة بالملاكمين، وهما يكيلان الضربات لبعضهما البعض. وكذلك الحال في الصراعات الإقليمية الأخرى.
ينقسم العالم في الحروب العالمية، كما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى حلفين وجبهتين، وفي بعضها تكتل ثالث كما في الحرب الباردة. أما أن تندلع مقدمات حرب عالمية بين عملاقين عالميين كأنهما في حلبة ملاكمة، وباقي العالم مهتم بشؤونه وقضاياه، يلعب دور المشاهد في مباراة الملاكمة، وهو المخالف لسنن الحروب العالمية. ناهيك عن الحرب التي تشنها أميركا على إيران لحساب الكيان الصهيوني، وقد ذهبت إلى أبعد مدى.
الحرب العالمية بين أميركا والصين لم تندلع بعد، لا من الناحية العسكرية، ولا من ناحية التهيئة الاستراتيجية والتكتيكية لها، لا سيما من جهة بناء التحالفات وتحضير الجبهات، الأمر الذي يطرح السؤال: هل ستبدأ بعد كورونا مرحلة التهيئة الاستراتيجية والتكتيكية من ناحية بناء الأحلاف وتحضير الجبهات، أم ستستمر على سمة صراع ملاكمين على حلبة في ظل قطبية متعددة تتسم بالسيولة والفوضى وازدواجية العلاقات؟
بالنسبة إلى هذا التساؤل فإن دونالد ترامب هو المسؤول عن الاجابة، وقد كان من المولعين بالملاكمة والمصارعة، ويُقال إنه رعى بعض مبارياتها. طبعاً يفترض ألاّ تكون لهذا علاقة بإدارته الصراع مع الصين، لاسيما ان علاقة العامة تشتبك مع ألمانيا وفرنسا وحتى بريطانيا، في موضوع المشاركة المالية المرهقة في حلف الناتو، مما يتطلب المسّ بموازنات الدول الثلاث، مقابل ما تقدمه أميركا من حماية لأوروبا. وهو ما طبقه بفظاظة، أيضاً، مع المملكة السعودية، إذ راح يبتزها مالياً ابتزازاً فاضحاً، مقابل ما يدعيه من حماية أميركا لها. وهو ما فعله، بصورة أقل فظاظة مع دول الخليج ومع كل حلفاء أميركا سابقاً. وكما قام بالتعامل المالي الأميركي مع المؤسسات الدولية، وهيئة الأمم من حيث تخفيض المساهمة المالية الأميركية، أو سحبها كلياً من منظمة الصحة العالمية.
أراد ترامب من ذلك كله أن يحسّن الوضع الاقتصادي الداخلي الأميركي، ليخدم هدفه الأول المتمثل بإعادة انتخابه رئيساً لدورة ثانية في الانتخابات الرئاسية الأميركة، المقررة في خريف 2020. من ناحية ثانية، فقد كانت المحصلة أن أميركا-ترامب لم تترك لها صديقاً في العالم إلاّ نتنياهو، ومع ذلك لم تختبره بعد في المواجهة مع الصين حين تأتي لحظة الفرز. مع العلم من ان ما يمكن ان يقدمه الأخير للولايات المتحدة في هذا الصراع لن يكون مؤثراً على الأرجح.
إن الإشكال الحقيقي في سياسات ترامب تتمثل في تناقضها مع استراتيجية الحرب على الصين، التي تستوجب تشكيل أوسع تحالف عالمي في حين ان إدارة ترامب تقلص من إمكانية التضامن الدولي معها. ويرجع السبب في هذا الإشكال إلى شعار "أميركا أولاً"، كما شعار "ترامب أولاً" لتأمين إعادة انتخابه من خلال إنجاز اقتصادي، ولو بالابتزاز المالي المفضوح.
إن مبدأ "أميركا أولاً"، ومبدأ الإنجاز الاقتصادي من خلال الابتزاز، يتناقضان مع مبدأ قيادة أميركا للعالم. لقد تطلب حشد الحلفاء وراء الولايات المتحدة، كل ما قدمته بعد الحرب العالمية الثانية من مشروع مارشال لكسب أوروبا الغربية، ومشروع النقطة الرابعة لكسب الدول المستقلة حديثاً، وما خصصته لحلف الناتو وحلف بغداد ولهيئة الأمم المتحدة، وللمنظمات الدولية، فضلاً عن موازنة القواعد العسكرية الأميركية في العالم. وكان كل ذلك ثمناً لتربعها على عرش قيادة "العالم الحر"، وكان هذا ثمناً لقدرتها على مواجهة الاتحاد السوفييتي والصين وحركة عدم الانحياز.
وقد عادت هذه السياسة على أميركا مالياً بأكثر مما دفعته. وهنا يخطئ ترامب -لقلة خبرته- حين يحسب ما خرج من جيب أميركا، ولم يحسب ما دخل جيبها نتيجة تحكمها في العالم. على سبيل المثال، لم يحسب ما جنته، وما زالت تجنيه، حين أصبح الدولار رسمياً مكان الذهب، غطاءً لعملات العالم، بل أصبح عملة التجارة العالمية.
لكن ما فعله ترامب من ابتزازٍ مالي، لتأمين نجاحه في الانتخابات القادمة، أجهضته أزمة كورونا، وقطعت عليه هذا المسار حين عرّته بسبب سوء مواجهته لها، ففرضت تعطيل الحياة الاقتصادية، وتوسعت بالبطالة، مما جعله يعيش الآن رعب السقوط في الانتخابات، بعد أن كانت النتيجة شبه مضمونة. كما راح يواجه أخطار التناقض بين الحكومة الفيدرالية والولايات، بسبب تخصيص الأموال لمواجهة المشاكل الاقتصادية والطبية.
فالمعركة الانتخابية الرئاسية القادمة ستكون حامية الوطيس. ويا للهول إذا سقط ترامب! فهو أمر لا يستطيع ابتلاعه والتسليم به، فيما أنصاره المتعصبون العنصريون المسلحون سيُدخلون أميركا في مأزق لم تعرفه لعبتها الديمقراطية من قبل. ولكن حتى لو مر ذلك بسلام، وجاء رئيس ديمقراطي فسيواصل استراتيجية وضع الصين العدو رقم 1، مع تغيير أساسي في إرساء سياسات جديدة في تحشيد أوسع جبهة دولية ضد الصين؟ فأميركا، وبإجماع، لا تستطيع احتمال استمرار الصين في تطورها والتفوق عليها. وفي هذا يتساوى الحزبان الجمهوري والديمقراطي. بيد أن ترامب نفسه في حال فوزه في الانتخابات فلن يكون بمقدوره مواجهة الصين، مواجهة جدية، وهو يعادي العالم، ولا سيما الأوروبيين واليابانيين والهنود المهيأون للتحالف معه ضد الصين.. ولكن ليس في ظل "أميركا أولاً" والابتزاز المالي المرفوض، وليس من دون ثمن يدفعه ترامب، مما سيجبره على إعادة بناء أوسع تحالف، الأمر الذي سيشكل وضعاً عالمياً جديداً، ليس بفعل كورونا، وإنما بسبب احتدام الصراع الأميركي مع الصين.
إن انتقال ترامب في الصراع مع الصين "على حلبة ملاكمة" في ظل تعددية قطبية، كل قطب له استراتيجيته وسياساته، إلى مرحلة جديدة يُبنى فيها حلف عالمي ضد الصين؛ سيؤدي (إلى جانب ما ستفعله الصين وروسيا والدول الأخرى في العالم) إلى تشكل وضع دولي جديد متعدد الأقطاب، ولكن بأحلاف أو محاور متعددة، وبحرب باردة جديدة مختلفة عن السابقة.
لقد تجاوزت روسيا والصين التناقض الحاد السابق، وتقاربتا خلال السنوات العشر الماضية تقارباً حميماً دون سقف التحالف العسكري- السياسي. والسبب يرجع إلى معاداة أميركا لروسيا، ظاهراً بسبب أوكرانيا وسوريا، وبسبب انطلاق سباق تسلح في عهد ترامب، الذي تفوقت فيه روسيا في مجالات عدة منها مجال الصواريخ البالستية التي تفوق بسرعتها الصوت بعشرين مرة.
بيد أن انتقال ترامب في مؤتمر ميونيخ الأخير (شباط/ فبراير 2020)، من خلال وزير دفاعه إلى الإعلان أن الصين هي العدو رقم 1، يكون قد غيّر من المساواة في العداء ضد كل من روسيا والصين، وفتح باباً للسؤال: هل ستترتب على ذلك محاولة تحييد روسيا أو المساومة معها ضد الصين؟ وهذا ما تفرضه أولوية الحرب على الصين، ولكن من الصعب ان يكون دونالد ترامب مستعداً لتقديم الثمن المطلوب لروسيا.
ما تطلبه روسيا من أميركا يتلخص في إبعاد الناتو عن حدودها، وأن تعترف أميركا بها شريكاً ندا في إدارة السياسة العالمية. وهو ما سيترتب عليه من نفوذ عالمي يشكل شرطاً لتطورها الاقتصادي، وتلبية لطموحها البعيد المدى. وهو تنازل أميركي ترفضه أميركا مجمعة وليس ترامب وحده، فضلاً عن المعارضة الأميركية المبدئية لما تحدثه روسيا من تطوير لصواريخها البالستية وقدراتها العسكرية التكنولوجية.
هذه المعادلة تجعل التناقض بين أميركا وروسيا أشد من التناقض بين أميركا والصين، لولا أن الصين راحت تتقدم اقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً بمستويات تفوق تحمل أميركا، وتهدد بإنزالها من عرشها كدولة كبرى رقمها ١ بين الدول.
إن التحدي الذي سيواجهه ترامب بعد كورونا، سيكون الفوز في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، وإذا سقط فستواجه الولايات المتحدة أزمة داخلية خطيرة. أما فوزه فسيرفع عن كاهله هدفه الذي حكمه طوال عهده الأول، وهو التجديد له، مما سيسمح له بتصحيح علاقات أميركا مع أوروبا واليابان والهند وعدد من دول العالم الثالث لحشدها ضد الصين. ولكن لكل ذلك أثمان على ترامب أن يدفعها، فهل سيدفعها؟ فهذا يتناقض مع عقليته التي عرفناه بها حتى الآن، ويتناقض ما وضعه من أولوية في الحرب ضد إيران. بل هو يتناقض مع الوضع العالمي الذي كان قائماً قبل جائحة كورونا وخلالها. كل هذه العوامل ستصيغ عالم ما بعد كورونا، عالم لا علاقة مباشرة لكورونا به.
أخيراً، لابد ان الإشارة ان مؤشراً آخر سيحدد ويصيغ موازين القوى الدولية بين أميركا والصين، وهو، علاقة أميركا بأوروبا وروسيا.