غزو أوكرانيا...
حتى دوستويفسكي وسولجينتسين كانا سيوافقان عليه!

Post
شارك

ماذا يقول عن صدام الحضارات ذاك المشاكس صموئيل هنتنغتون؟ إنه يعتقد حقًا أن هناك خطاً فاصلًا بين المسيحية الكاثوليكية والبروتستانتية من جهة، والمسيحية الأرثوذكسية من جهة أخرى. يخبرنا أن "الحضارة الروسية هي نتاج جذورها الخاصة، مزيج من النفوذ البيزنطي والهيمنة المغولية الطويلة. لقد شكلت هذه التأثيرات مجتمعاً وثقافة لا تشبه الى حد كبير تلك التي نشأت في أوروبا الغربية تحت تأثير قوى مختلفة للغاية". بالنسبة لهذا الأستاذ في جامعة هارفارد، فإن العديد من خصائص حضارة أوروبا الغربية، مثل الفصل بين الكنيسة والدولة، التعددية الاجتماعية، المؤسسات التمثيلية وسيادة القانون، بقيت غريبة عن التجربة الروسية الأعم.

وبالتالي، فإن كييف أو خاركيف أو حتى لفيف تقع في نفس المدى الاجتماعي لموسكو، مما يعطي الذريعة للأخيرة استخدام القبضة العسكرية لإعادة الخروف الضال إلى الحظيرة العائلية، باعتبار ان النخب السياسية والفكرية الأوكرانية قد ضلت طريقها عندما اختارت الليبرالية السياسية، وتداول السلطة والشفافية في الإدارة العامة.

الركيزة الأيديولوجية

منذ القرن التاسع عشر، غرس تيار أدبي كامل في العقليات الروسية بذور عدم الثقة في الغرب وأتباعه. لذلك فإن حرب الاستعادة التي يقودها فلاديمير بوتين ليست منفصلة عن الشجار القديم الذي قسم المثقفين والطبقات الحاكمة في ظل حكم الرومانوف بين جهتين، الغربيين من جهة والسلافوفيليين من جهة اخرى. أما التيار الأول، فقد دعا إلى تطوير البلاد وفقًا للنموذج الأوروبي، بينما أراد التيار الثاني الحفاظ على روح شعبه من ويلات الأفكار المستوردة مثل عقلانية التنوير والفردية الجامحة. لم يفلت المؤلفون الذين يمكنهم الادعاء بالعالمية من هذا الإغراء، مثل نيكولاس غوغول وفيودور دوستويفسكي وحتى المنشق ألكسندر سولجينيتسين والمنبوذ ألكسندر زينوفييف. كما أن لينين نفسه ساوى أحيانًا الرأسمالية بالغرب.

يتغذى مشروع الوحدة السلافية (البان سلافية) كما تتغذى القومية المتطرفة من مصادر الفكر السلافوفيلي، الذي كان مشبعًا بمسيانية دينية (من المسيحية)، حيث كانت موسكو تُعتبر دائمًا، من وجهة نظر إمبراطورية، روما. في هذا السياق، ولكي تنجز موسكو المهمة العظيمة التي كانت على عاتقها، كان الإجماع مطلوبًا وكان ينظر إلى بولندا السلافية، كونها كاثوليكية، على أنها استفزاز، ليس فقط من قبل الروس ولكن أيضًا من قبل الأوكرانيين.

بالنسبة لأولئك الذين تشربوا هذه الأفكار وتبنوها، كان من الضروري الحفاظ على الخصوصية الروسية ومسارها الفريد تاريخيًا بمنأى عن أي هجوم، تمامًا مثل الحفاظ على الأرض المقدسة للوطن الأم. منذ أن فرض بطرس الأكبر إصلاحاته بالقوة عندما اعتبرها مفيدة، كان هناك ممانعة لكل ما هو أجنبي، وبصورة أدق ممانعة ضد الألمان، وضد القياصرة الذين فرضوا جرمنة البلاد لمواكبة التحديث ومعالجة التأخيرات المتراكمة. وقد قيل إن مشكلة السلاف برمتها كانت(...) قائمة على ازدواجية دائمة هي معارضة "الآخرين" لـصالح الـ "نحن".

في هذا المجال الخصب، ازدهرت الأطروحات "الأوراسية" لألكسندر دوغين، أستاذ علم الاجتماع ذو التأثير في أروقة الكرملين، كما تشير هآرتس. لا يتوقف هذا الكاتب عن التشكيك في عالمية النموذج الأطلسي و"التحديث الخارجي". من وجهة نظره، فإن "الحضارة التلاثوقراطية (ذات السلطة البحرية) Thalassocratique المتمثلة بالأنجلو سكسونية والبروتستانتية وبالروح الرأسمالية تعارض بشكل غير قابل للاختزال الحضارة القارية (ذات السلطة البرية)، الروسية الأوراسية، الأرثوذكسية والإسلامية، المتمثلة بالروح الاشتراكية".

تنشر حالياً مجلة لو فيغارو Le Figaro مقالاً يعلن نهاية عصر تقليد النموذج الغربي، أي "نهاية حقبة" تقوم على عدم التناسق بين الرعايا المُقلِدين (في البلدان الأوروبية ما بعد الشيوعية) من ناحية، وبين الرعايا المُقلَدين (في الدول الغربية) من ناحية أخرى؛ لاسيما ان الأخيرة لديها نموذج تحسد عليه، من ناحية، والبلدان التي من المقرر أن تتبنى هذا النموذج، من ناحية أخرى، لأنها لا ترى "بدائل موثوقة". فلا شك اذاً بأن الشجار القديم قد اشتعل من جديد وأن بوتين يعتزم تحرير شعبه من نير التقليد والقوة الناعمة التي تستعمر بخبث عقليات وقلوب رعاياه.

للدفاع عن مصالحه الأمنية والاستراتيجية، يمكن لقيصر كل روسيا الاعتماد على الأطروحات غير التاريخية لهنتنغتون، والتي بموجبها ان لا تشمل "الحدود الشرقية للحضارة الغربية" بقاع أوكرانيا.

وإذا اعتبر ان سكان نهر الدنيبر يشكلون المنطقة الحيوية المحددة للأرثوذكسية السلافية، فعليهم التمسك بالمكان الذي خصص لهم بدلاً من محاولة ربط مصيرهم بمصير الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وبمجرد أن سمح سكان كييف لأنفسهم بأن ينجروا وراء سراب الأطلسي وما يترتب عليه من فساد مثل الديمقراطية الليبرالية والحق في أن يكونوا مختلفين، يتعين على السيد المستبد أن يتدخل لدعوتهم إلى الانتظام تحت لوائه. لأن الحلم بالسيادة والتحرر من التحالفات خرق خطير للتضامن الذي يجمع من يستعمل الأبجدية السلافية!

لذا فإن الغزو، الذي يحدث أمام أعيننا، لا يشكل سوى عملية بوليسية أو عملية لإنفاذ القانون، شأن داخلي بين أناس من نفس العالم. فيجب بالتالي إعادة أوكرانيا إلى "حالتها الأصلية كجزء لا يتجزأ من العالم الروسي". هذا من شأنه أن يفسر سبب تمكن بوتين من التهديد بحرمان هذا البلد من إقامة دولته. لماذا تتفاجأ؟ الحقيقة هي أن روسيا العميقة لم تعترف أبدًا بأوكرانيا كدولة ذات شخصية قانونية مستقلة، أكانت عين الناتو عليها ام لم تكن!

تعني الجيرة الجغرافية المشتركة التزامات يتحمل اعباءها عمومًا الأطراف الأضعف. لذا، عندما تتساءل ما الذي يتقاسمه اللبنانيون مع الأوكرانيين، فإن الإجابة بسيطة: إنها لعنة الأخ الأكبر الذي لا يريد لجيرانه سوى الخير.

*محام

شارك