من يراقب كهنوت عصر المراقبة الرأسمالية؟ لشوشانا زوبوف

Post

* كتاب "عصر رأسمالية المراقبة" الصادر عن دار نشر بروفايل ليمتيد في بريطانيا سنة ٢٠١٩

شارك

في كتابه "التحول العظيم" الذي صدر عام 1944، وصف المؤرخ الاقتصادي-الاجتماعي النمساوي كارل بولاني الرأسمالية الحديثة بأنها "حركة مزدوجة" أدت في الوقت نفسه إلى توسيع السوق وتقييده. فخلال القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، تم إلغاء القيود الإقطاعية القديمة على التجارة، وأصبحت الأرض والعمل والمال تعتبر سلعاً. لكن الرأسمالية غير المقيدة دمرت البيئة، وألحقت الضرر بالصحة العامة، وأدت إلى الذعر والاكتئاب الاقتصاديين، وبحلول وقت كتابة بولاني، كانت المجتمعات قد أعادت فرض قيود على السوق.

هذا بالفعل ما تراه شوشانا زوبوف، الأستاذة الفخرية في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد الأميركية، في كتابها "عصر رأسمالية المراقبة" المقسم لأربعة أجزاء، حيث يقدّم كل جزء أربعة أو خمسة فصول، إضافة إلى فصل أخير هو الخاتمة. تقول زوبوف في مقدمتها: "تعتبر رأسمالية أن التجربة البشرية وتصرفات المستهلكين مادة خام مجانية يمكن ترجمتها إلى بيانات سلوكية. على الرغم من أن بعض هذه البيانات يتم تطبيقها على تحسين المنتج، أو الخدمة، إلا أنه يتم التعامل مع باقي البيانات باعتبارها مادة لفهم الفائض السلوكي، يتم استخدامها في عمليات التصنيع المتقدمة المعروفة باسم"ذكاء الآلة"، ويتم تصنيعها في منتجات تنبؤية تتوقع ما ستفعله الآن، قريباً، ولاحقاً."

تلاحظ شوشانا ظهور "رأسمالية المراقبة" Surveillance Capitalism، وهو شكل سوق جديد ابتكره فيسبوك وغوغل. وتضيف أن الرأسمالية توسع مجال السوق مرة أخرى، هذه المرة من خلال المطالبة "برصد التجربة البشرية عبر التصفح الإلكتروني كمواد خام مجانية تستخدم كمعطى تجاري خفي للاسترشاد والتنبوء والمبيعات".

مع انتشار أجهزة الكمبيوتر في جميع مجالات الحياة وإنترنت الأشياء (اتصال الأشياء اليومية بالإنترنت)، أصبح استخراج البيانات منتشرًا. نحن نعيش في عالم يزداد اكتظاظًا بالأجهزة المتصلة بالشبكة التي تلتقط اتصالاتنا وحركاتنا وسلوكنا وعلاقاتنا، حتى عواطفنا وحالاتنا العقلية. وتحذر زوبوف من أن رأسمالية المراقبة نجت حتى الآن من الحركة المضادة التي وصفها بولان، أي التأثيرات السلبية لها على البيئة والاقتصاد ...

لكن البشرية تواجه تحديات كبيرة في المستقبل الرقمي بشكل غير مسبوق، خاصة من قبل ما يسمى «رأسمالية المراقبة» وتسعى الشركات القوية للتنبؤ بسلوكنا، والتحكم فيه، واستغلاله. وفي هذا العمل، تقدم شوشانا زوبوف، تحليلها تجاه هذه الظاهرة، ومدى قدرتها على التغلغل في الطبيعة البشرية، وتهديدها، ثم تهديد كل ما يتعلق بنا كبشر، وتعديله وفق مصالح الشركات التكنولوجية النافذة.

تقول زوبوف: "لا يمكن الاستهانة بالمخاطر، فالبنية العالمية لتعديل السلوك تهدد الطبيعة البشرية في القرن الحادي والعشرين، تماماً مثلما شوهت الرأسمالية الصناعية العالم الطبيعي في القرن العشرين".

يعد كتاب زوبوف تحليلاً رائعًا ومثيرًا للاقتصاد الرقمي ويدعو إلى إيقاظ اجتماعي عام ينبه الى ضخامة التغييرات التي تفرضها التكنولوجيا على الحياة السياسية والاجتماعية. يرى معظم الأميركيين أن التهديدات التي تفرضها شركات التكنولوجيا هي أمور تتعلق بالخصوصية. لكن زوبوف تظهر أن رأسمالية المراقبة تنطوي على أكثر من مجرد تراكم البيانات الشخصية على نطاق غير مسبوق. إن شركات التكنولوجيا وخبرائها - الذين تسميهم زوبوف "الكهنوت الجديد" ينتجون أشكالًا جديدة من القوة ووسائل تعديل السلوك التي تعمل خارج الوعي الفردي والمساءلة العامة. سيتطلب التحقق من سلطة هذا الكهنوت، حركة مضادة جديدة - تحد من رأسمالية المراقبة باسم الحرية الشخصية والديمقراطية.

ولعل أخطر ما قالته زوبوف، أن رأسمالية المراقبة تدفع المجتمع باتجاه غير ديمقراطي بشكل أساسي. مع ظهور الحوسبة في كل مكان، تحلم الصناعة بإنشاء أنظمة النقل والمدن بأكملها مع آليات مدمجة للتحكم في السلوك من خلال استخدام أجهزة الاستشعار والكاميرات وبيانات تحديد المواقع وغيرها!

وتتابع الكاتبة، حول نمو وانتشار هذه العمليات وقوة الآلات التي تدعمها، فتقول: «في الواقع، أصبح من الصعب الهروب من هذا المشروع الجريء في السوق، الذي تتحول مخالبه من حالة الرعاية اللطيفة إلى رصد الأسواق المستقبلية والسلوكيات الخاصة بها، من خلال مصادرة قوية لملفات تعريف فيسبوكية لأغراض متابعة المتصفحين. ومثلما كانت الرأسمالية الصناعية مدفوعة إلى التكثيف المستمر لوسائل الإنتاج، فإن الرأسماليين المشرفين ولاعبيهم في السوق، محبوسون الآن في التكثيف المستمر لوسائل التعديل السلوكي، وتجميع قوة الآلات"... كتاب جديد لرصد تحولات جديدة في هذا البعد الالكتروني الضخم جداً.

نبذة عن الكاتبة

*نالت الأمريكية شوشانا زوبوف (مواليد 1951) شهادة الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي من جامعة هارفارد، وشهادة البكالوريوس في الفلسفة من جامعة شيكاغو. ثم انضمت إلى كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد في عام 1981. وكانت من أوائل النساء اللواتي شغلن منصباً في الكلية، وهو منصب أستاذ تشارلز إدوارد ويلسون لإدارة الأعمال. كرست حياتها المهنية لدراسة العصر الرقمي، وعواقبه الفردية والتنظيمية والاجتماعية، وعلاقته بتاريخ الرأسمالية.

شارك