الفضائل العادية بمواجهة حقوق الإنسان...
الكتاب: "الفضائل العادية: النظام الأخلاقي في عالم منقسم"   الكاتب: مايكل إغناتييف
تاريخ الإصدار: سنة ٢٠١٧  درا النشر: هارفرد الجامعية Harvard University Press
مايكل غرانت إغناتييف؛ هو مؤلف كندي ورجل سياسي وأكاديمي سابق، ولد عام ١٩٤٧. كان رئيس الحزب الليبرالي الكندي، وزعيم المعارضة الرسمية في البرلمان الكندي من عام 2008م وحتى عام 2011م. عُرف أيضاً بعمله كمؤرخ وتولى مناصب أكاديمية عُليا في جامعة كامبردج، وجامعة أكسفورد، وجامعة هارفارد وجامعة تورونتو.
قد يزعجك وضوحه المعتاد. مايكل إغناتييف لا يهادن في موقفه الأخلاقي عندما يباشر كتابه المبحر منذ بدايته في غموض المصطلحات رغم وضوح الأحداث التي يستنبط منها خلاصاته الجديدة والمثيرة للاهتمام. فهو يهوم بين ثنائية حقوق الأنسان والفضائل ويضعهما وجهاً لوجه. إنه كتاب مختلف.
إذاً، ليبني إغناتييف خلاصاته، يتناول في كتابه مجموعة من الأحداث. أولها، الإبادة الجماعية التي حصلت في سريبرينيتشا، حيث ينتقد موقف القوات الهولندية التي كانت مولجه حماية المنطقة الآمنة التي أعلنتها الأمم المتحدة. فهو يشير الى ان الهولنديين غضوا النظر وتجاهلوا مهمتهم الى حد التواطؤ مع الصرب، فحصلت المجزرة بعد تأخر او رفض القوى الكبرى في تقديم الدعم الجوي، مما جعل حماية المعسكر-المنطقة الآمنة أكثر صعوبة.
بعد هذا الحدث يتناول إغناتييف بمقاربة نقدية مماثلة سلوك البلجيكيين في رواندا سنة 1994 حيث حدثت مجازر لا توصف.
مراجعاته هذه، بما فيها من قضايا محورية كقضية البوسنة بعد عشرين سنة من إبرام السلام رسمياً، هي مراجعات سردية يكون فيها الصراع الداخلي-الأهلي أمرًا محوريًا، تخدم فكرته الواضحة، أنه من الصعب مواجهة العنف المتعلق بالهويات الوطنية وان إمكانيات المصالحة في هذه المجتمعات صعبة.
بالمقابل، ينتقل بعدها إغناتييف ليعرض كيف تمكن الناس من العيش معًا بين أعراق متعددة في أكبر مدينتين أميركيتين، على الرغم من أن جميع أنواع المشاكل قد حصلت. يتناول كيف يعيش الناس العاديون في البرازيل، في ميانمار، في المأساة ما بعد النووية في اليابان؛ وكيف عملت المصالحات في البوسنة وجنوب إفريقيا. وقد خلص إلى أن المجتمعات الممزقة قد تتمكن من العيش جنبًا إلى جنب (إن لم تكن تعيش حرفيا معا) من قبل الأفراد الذين يعتمدون على ما يسميه الفضائل العادية، كالثقة والتسامح والغفران والمصالحة والمرونة. هنا يمهد للصدام، صدام بين هذه الفضائل المجتمعية مقابل منظومة حقوق الإنسان.
يُعرف إغناتييف بأنه ليبرالي متردد إلى حد ما، ومن المعروف عنه أنه يشكك فيما يمكن توقعه من الاعتماد على حقوق الإنسان؛ فهو يعتبر ان التركيز المفرط على حقوق الإنسان رغم أهميته لا ينبغي أن يوضع في القيم ويتم "تقديسه"، لا بل يجب ان يكون محل نقاش وان يكون جزءاً من النقاش السياسي.
يشير الكاتب الى أن الفضائل العادية تبدو أكثر مرونة من حقوق الإنسان في تشكيل إطار يمكّن الناس من ممارسة فضائلهم؛ أشياء مثل الثقة والتسامح. على الرغم من أهمية حقوق الإنسان بالنسبة لوجودنا العام والسياسي، إلا انها لدى العامة لا صلة لها بمسائل كجمع القمامة مثلاً، أو إرسال الأطفال إلى المدرسة، أو العمل اليومي ذو المخاطر...
موقف إغناتييف في كتابه هذا يشير إلى أن حقوق الإنسان لها قوة جذب صغيرة في الحياة اليومية، في حين أن إنشاء إطار لممارسة الفضائل مفيد بما فيه الكفاية. يتعامل إغناتييف مع هذه الفضائل مستعيراً المفردات من أخلاق الفضيلة الأرسطية؛ أنه يؤطرها من حيث الفضائل، عادية وغير عادية.
وهذه المقاربة عرضة للنقد. السبب الأول هو أنه في كثير من الأحيان يكون المحرك الاجتماعي والسياسي غير مرتبط بالفضائل بل بالمصالح. في حين أنه من الواضح أنه بالنسبة لأرسطو، كانت الفضائل "عامة" تقريبًا بحكم تعريفها وساعدت في تشكيل سياسات الشرطة على سبيل المثال. السبب الثاني، ويطرح من خلال سؤال: هل يمكن لهذه الفضائل ان تلعب نفس الدور الذي تلعبه في المجتمعات التقليدية في مجتمعات أكبر وأكثر تعقيدًا أو في العلاقات الدولية؟ إنه من المفيد، بلا شك، ان يكون الناس فاضلين بشكل عام، لكن هذه المقاربة قد لا تخبرنا إلا القليل حول نوع الإجراء الذي يجب أن نتخذه - سواء للتدخل في رواندا في عام 1994 أم لا؛ سواء في فرض عقوبات على كوريا الشمالية في 2017 أم لا... حتى ولو فشلت منظومة الحقوق في تجنب العنف والمجازر في هذه الحروب الأهلية الواردة في الكتاب.
لقد أشار أرسطو، ود ارتبط مصطلح أخلاق الفضيلة باسمه، إلى سمات شخصية مثل الصدق والاعتدال والشجاعة والتواضع والشعور بالعدالة والحكمة العملية. كانت هذه، حسب اعتقاده، تصرفات شخصية يمتلكها أفراد من شأنها أن تسهل وجودنا المشترك وتؤدي في النهاية إلى ازدهار الفرد في بيئته السياسية. أضاف بعض المفكرين لاحقًا المزيد من الفضائل الى منظومة القيم كالإيمان والأمل والإحسان، وفقدت بعض الفضائل الأرسطية تألقها على مر السنين؛ هذا ينطبق، على سبيل المثال، على إحدى فضائل أرسطو كالذكاء. ارتبطت الفضائل بممارسة التحكيم، وهناك فرع من أخلاقيات الفضيلة يركز على نظرية المعرفة عن الفضيلة؛ ولكن، على الرغم من ذلك، ارتبطت الفضيلة عموماً بسمات شخصية فردية.
ما يشير إليه إغناتييف على أنه فضائل، هي سمات شخصية فردية أقل وضوحًا كالثقة مثلاً. ترتبط الثقة مثلاً ارتباطًا وثيقًا بالمعاملة بالمثل، ومن المحرج التفكير في الثقة بمصطلحات فردية بحتة. يجب أن تُكتسب الثقة ويمكنها أن تضيع، بطرق لا تنطبق تمامًا على ما ينطبق على الصدق أو الاعتدال أو الشجاعة. هذا ينطبق على واحدة على الأقل من "الفضائل العادية" التي أشار إليها إغناتييف: المصالحة. فالمصالحة ليست شيئًا يمكن تحقيقه بفردية، فهي تعتمد على طرفين أو اكثر. تعتمد الثقة والمصالحة على الفضائل (على فضائل مثل الصدق والرحمة)، ولكن قد تعتبر فضائل في حد ذاتها. هناك علاقة بين فضائل أرسطو مثل الصدق والرحمة وفضيلة إغناتييف للثقة، ولكن إذا كان ممكن تسمية الاثنين بالفضائل، فمن المفيد أن نتذكر أنها منظمة بشكل مختلف.
تثير هذه الفكرة التساؤل حول سبب لجوء إغناتييف إلى مفردات أخلاق الفضيلة لمناقشة كيف يمكن للناس العيش معًا (أو جنبًا إلى جنب) في حالات الخلاف العميق أو العداء. ربما يكون التفسير الأكثر منطقية هو أنه من خلال استدعاء مفردات الفضائل، يريد التأكيد وربما التأكيد المفرط، على أننا جميعًا نتحمل بعض المسؤولية عن كيفية تنظيم عالمنا المشترك، سواء كان في كوينز أو نيويورك أو في البوسنة أو ميانمار أو لبنان.
وما يحاول إغناتييف إثارته، هو أن حقوق الإنسان مفيدة وملهمة لمناقشة وترتيب العلاقات بيننا وبين أولئك الذين يديرون حياتنا (حكوماتنا وربما الآخرين، مثل أصحاب العمل)، ولكن ليس لديها -أي حقوق الإنسان- تأثير كبير على كيفية تصرفنا تجاه بعضنا البعض. تتكون المجتمعات من أفراد مترابطين جسديًا معًا ولكن مع اختلاف وجهات النظر في الحياة والولاءات المختلفة تجاه المذاهب والعشائر أو الأعراق المختلفة، فإن إغناتييف يعتبر ان منظومة حقوق الإنسان ليس لها تأثير كبير على الحياة اليومية، كالعلاقة مع الجيران على سبيل المثال. إنه لأمر رائع أن نتمتع بحرية الضمير، ومن المفيد أن يكون لك الحق في التحرر من التعذيب، لكن هذا لا ينفع عندما نشعر بالضيق حيال ذبح جيراننا في الردهة. وعلى الرغم من أنه من الرائع أن يكون لديك الحق في التعليم، إلا أنه لن يكون مفيدًا للغاية إذا كانت المدرسة تؤجج الأحقاد.
يعتبر إغناتييف أن الإفراط في الاعتماد على حقوق الإنسان قد يقوض المسؤولية الفردية عن عالمنا المشترك (كما قد تضعه هانا أرندت)، وربما هنا هي الحاجة الى لغة الفضائل.
يمكن للحكومات، في تنفيذ معايير حقوق الإنسان، أن تضع الأطر التي يمكن من خلالها إعمال هذه الحقوق، ولكن لا يوجد بديل عن المعلم المتفاني والممرضة الرحيمة أو طبيب الحي وضابط الشرطة المفيد وحتى جامع القمامة الذي يمكن الاعتماد عليه. هؤلاء المسؤولون يشكلون، مع بقيتنا، نسيج المجتمع. نحن بحاجة إلى أن نكون قادرين على الثقة بهم، ويجب أن يكونوا قادرين على الوثوق بنا - بدون هذه الثقة، يكون التعاون والتعايش المشترك أقرب إلى المستحيل وهذا يعني أن الحياة الاجتماعية تصبح مستحيلة تمامًا.
يبدو أن مقولة إغناتييف ليست خالية من المخاطر. في مرحلة ما، يقترب إغناتييف بشكل خطير من الدفاع عن إهمال قواعد حقوق الإنسان العالمية المتعلقة باللاجئين، بدلاً من تأييد استبدالهم بالفضائل العادية، ويقول في الصفحة ٢١٣: "ما يدفعنا الى العطاء ليست القناعة المجردة بأن للاجئين لهم حقوق، ولكن ببساطة الشفقة والرحمة. إن عالمية حقوق الإنسان هي ازدراء للشفقة لأنها تقديرية وعاطفية وشخصية للغاية. ومع ذلك، من الممكن أن تكون الشفقة الصرفة قد قامت بعمل أكبر وفعلي لإنقاذ الضحايا من لغة الحقوق".
لكن بالمقابل فليسمح لنا الكاتب لان المنزلق خطر، لا ينبغي إخبار ملايين اللاجئين الذين يحاولون البقاء في مخيمات في لبنان أو باكستان أو أوغندا أن مستقبلهم كبشر (ذوي مكانة مساوية لبقية منا) يعتمد على ما إذا كان البعض منا كريمًا بما يكفي للسماح لهم بالدخول. إن الموافقة على قراءة مستنيرة لاتفاقية اللاجئين - قراءة مليئة بالتعاطف والإحسان والكرم وكذلك الحكمة العملية والشعور بالعدالة، ضرورية، ولكن هذا شيء آخر تمامًا. على الرغم من موقفه المسكون بالعدل فإن إغناتييف لا يذهب إلى هذا الحد؛ فهو يتوقف عند مقولة أن الشفقة هي أكثر فائدة من الحقوق.
إذا كان إغناتييف يقترح فقط أنه في عالم اليوم يجب إعادة تقدير الفضائل العادية كأساس متين للعمل الجماعي البشري، فإن هذا الكتاب مرحب به. يمكن لحقوق الإنسان القيام بالكثير من العمل في ردع الحكومات المفرطة في الانتهاكات، ويجب تقديرها لهذا السبب وحده. لكن بالطبع لا تستطيع حقوق الإنسان تنظيم العلاقات بين الأشخاص، ولاينبغي توقع ذلك. ومع ذلك، إذا كان إغناتييف يهدف إلى القول بأن الفضائل العادية يجب أن تحل محل الحقوق القائمة، فهذا اقتراح خطر؛ وهذا من شأنه أن يشير إلى العودة إلى أيام ما قبل الحقوق، وقبل الدول المدنية، مع اعتماد الكثير على الأعمال الخيرية وحسن النية، وسيكون من الخطأ إخضاع الفقراء والمحرومين لأهواء وحماقات المحسنين والجمعيات الخيرية في مجتمعات أهلية.
مع ذلك تبقى الفضيلة العادية بغاية الأهمية.